انتخابات النزيهة مدخل حقيقي لتنزيل الحكم الذاتي بأقاليمنا الجنوبية
حققت بلادنا خلال نهاية الأسبوع الماضي نصرا تاريخيا لمشكل عمر أزيد من خمسة عقود ، وراح ضحيته مئات الشهداء وشردت بسببه آلاف الأسر المغربية ، وفصلت أهواء حاكمي قصر المرادية ومن والاهم من صنيعتهم جبهة البوليساريو الأب عن أبنائه وإخوانه وأرضه ،وانتهكت بسببه أعراض وسلبت أموال وضيعت أعمار بسبب مشكل مفتعل بين الإخوة الأشقاء ، إنه مشكل الصحراء الذي عطل مسيرة النماء وحكم على مستقبل دول المغرب المغرب العربي بالجمود طيلة سنوات طوال ،لقد شكل هذا المشكل ضربة موجعة لأحلام قادة دول المغرب العربي الذين عبروا غير ما مرة عن رغبتهم الأكيدة في قيام إتحاد إقليمي ،يحقق التكامل والنماء والاستقرار والتنمية المستدامة لأقطاره والتي لها من المقومات الشيء الكثير الذي يجعلها تضاهي بل تفوق اتحادات إقليمية أخرى لا رابط بينها فلا لغة ولا حدود ولا دين ولاجوار يجمع العديد من الدول ،لكن جمعت واتحدت بإرادات قادتها وحققت المعجزات بينما بقي مغربنا العربي يرزح تحت وطأة أحلام ورغبات تمتح من ماضي غريب يقوم على معاكسة المغرب ومحاولة إضعافه ،استجابة لنزوة ذاتية تقوم على أنانية مفرطة موغلة في التخلف والرجعية ووهم الدولة العظمى بالإقليم المغاربي .
وبعد صبر ونضال ومجاهدة الملوك المغاربة ومعه الشعب المغربي قاطبة من طنجة إلى الكويرة وعلى رأسهم ساكنة الأقاليم الجنوبية استطاع المغرب أن يخرج منتصرا من هذه المعركة التي استمرت خمسون سنة كاملة ،وذلك عبر تفضيل مبدأ الخيار السلمي وحسن الجوار واعتبار جبهة البوليساريو وساكنيها ضحايا لحقبة الحرب الباردة ومخلفاتها ، التي سكنت عقول بعض جيراننا واستعملوا كل الأساليب الممكنة والغير المشروعة ومولوا وآووا وناصروا بالباطل هذا الكيان المزعوم سواء خلال فترة الحرب والتي استمرت سنوات طوال ، وأيضا بعد دخول مسلسل التسوية الأممي حيز التنفيذ بعد إتفاق وقف إطلاق النار بين المغرب وجبهة البوليساريو يوم 6 سبتمبر سنة 1991 مع وعد بتنظيم استفتاء في الإقليم في السنة الموالية كحل للنزاع المفتعل ، ومع ذلك لم يتم تنظيم الاستفتاء بسبب الخلافات حول من يحق لهم التصويت، وأجريت العديد من المحاولات من أجل تنظيمه طيلة سنوات (وأهمها خطة بيكر في عام 2003) لكنها فشلت. ومع ذلك استمر وقف إطلاق النار من طرف المغرب ، رغم المناوشات والخروقات التي ارتكبتها الجبهة الانفصالية طيلة سنوات قبل أن تتدخل القوات المسلحة الملكية بمنطقة الكركرات وتقوم بتأمين المعبر الحدودي بين المغرب ودول إفريقيا .
لقد قامت بلادنا طيلة العقود الثلاثة الماضية بإتخاذ مجموعة من المبادرات من أجل حلحلة هذا المشكل وإيحاد حل سلمي مع جبهة البوليساريو ومع الدولة الراعية دون جدوى ،وهو ما جعلها تتخذ من مسار التنمية وتفعيل العمل الديبلوماسي الجاد والمسؤول لإقناع المنتظم الدولي بإستحالة قيام أي حل لا يعترف بالسيادة المغربية على أقاليمه الجنوبية ، وفي مبادرة شجاعة قدم المغرب مقترحه القاضي بمنع الأقاليم الجنوبية حكما ذاتيا تحت السيادة المغربية سنة 2007 وتم وصفه آنذاك بالمقترح الجدي والواقعي عكس المقترحات الأخرى التي قدمت و من أسوئها مقترح التقسيم ومقترح تنظيم الإستفتاء والذي أخذ من كافة الأطراف وقتا كبيرا مع إستحالة تطبيقه نظريا وواقعيا .
إن المغرب اليوم وبعد هذا العمل الجبار بقيادة صاحب الجلالة نصره يؤكد بالملموس قوة مقترحه ووجاهة طرحه ،وهو الذي إستطاع في أقل من عقدين أن يغير نظرة العالم إلى مقترح الحكم الذاتي باعتباره أحد الحلول المقترحة سنة 2007 ،إلى جعله الحل الأكثر واقعية والذي يجب ان تبنى عليه أرضية التفاوض بين الأطراف كحل أوحد قادر على إيجاد حل نهائي لهذا المشكل الذي عمر لعقود من الزمن . لقد أبانت الديبلوماسية الحكيمة لصاحب الجلالة نصره الله وأيده منذ القرار التاريخي بالعودة إلى الاتحاد الإفريقي سنة 2017 والانفتاح على دوله ، وعقد العديد من الشراكات الاقتصادية بمنطق رابح رابح .كما ان بناء علاقات دولية متوازنة وغير خاضعة لمنطق الأحلاف والتموقعات اللحظية بين الدول العظمى جعل من المغرب قوة تفاوضية كبرى إستطاعت ان تجلب أصوات أزيد من 120 دولة لفائدة المقترح المغربي من كافة الدول ، وهو ما ساهم في فتح عشرات الدول لقنصليات بالأقاليم الجنوبية ،كما ان مجلس الأمن بتصويته هذا جعل المغرب يتصدر القوى الدولية التي تحصل على أغلبية أصوات أعضاء مجلس الأمن الخمسة عشر ، وبتفسير بسيط وبعيدا عن كل الخلفيات يمكن القول أن المقترح المغربي حصل على شبه إجماع ولا يمكن تفسير تصويت ثلاث كبرى بالإمتناع إلا في صالح المغرب ،إذ كان بإمكان دولتين منها إسقاط القرار باستعمال حق النقض الفيثو .ولذلك فإن النصر المغربي الكبير لا يمكن لنا جميعا إلا ان نعتز به ونثمنه ،ويحق لنا أن نتساءل ما العمل خلال المرحلة القادمة على المستوى الداخلي مادمنا مطمئنين على المستوى الخارجي الذي يظل في أيدي صاحب الجلالة نصره وتحت إشرافه
و هل وضعنا الحالي سياسيا يسمح بتنزيل امثل لمقتضيات الحكم الذاتي كحل وحيد وأوحد لمشكل الصحراء المغربية .
إن المدخل الحقيقي لتنزيل الحكم الذاتي كحل واقعي ونهائي ووحيد لمشكل الصحراء المغربية لا يمكن ان يتحقق في ظل الوضع السياسي الحالي والموسوم بتحكم الحكومة الحالية في مفاصل الدولة ،وتهديدها للسلم والأمن الاجتماعي بالقرارات اللاشعبية والتصرفات غير المسؤولة والجشع غير المبرر لأعضائها ، والذين لا هم ولا حديث عندهم خارج لغة المصالح وحماية اللوبيات الاقتصادية ،والتي يصعب معها الاطمئنان إلى ما ستفعله خلال ماتبقى من ولايتها .لذلك وبغض النظر عن رعاية صاحب الجلالة نصره الله وضمانته لساكنة الأقاليم الجنوبية ،فإن ذلك يقتضي هبة شعبية ويقظة متناهية من الفاعل السياسي والمدني حتى يكون في مستوى هذه اللحظة التاريخية ،التي استشهدت من اجلها أجيال وسالت بسببها دماء طاهرة وانفقت في سبيلها أموال طائلة في سبيل وحدة الوطن من طنجة إلى الكويرة ، على هذا الأساس نرى أن هناك ثلاثة مداخل رئيسية لتنزيل الحكم الذاتي بأقاليمنا الجنوبية العزيزة :
تنظيم انتخابات تشريعية نزيهة وشفافة :
تعتبر الانتخابات النزيهة والشفافة أرقى وأسمى درجات التعبير عن الرأي وتقرير المصير ،وذلك عبر التعبير الحر والشفاف و اختيار نزيه لممثلي الساكنة ،إذ لا يمكن تصور السعي إلى تنزيل الحكم الذاتي بانتخاب نخب فاسدة لا شرعية لها وبطرق غير مشروعة إن على المستوى الوطني او المجالي ،كما أن الدولة مدعوة إلى إعطاء رسائل إيجابية عبر إقرار منظومة انتخابية شفافة وذلك بإخراج مشاريع القوانين الانتخابية في حلة تضمن اختيارا ديموقراطيا حقيقيا وشفافا ،لذلك من الضروري إقرار تعديلات جوهرية تضمن تجويد النصوص التشريعية ، والتراجع عن كافة المقتضيات ذات النفس النكوصي والارتدادي . بما في ذلك ضمان الحق في التعبير عن مخرجات العملية الانتخابية وإبداء الأراء بشأنها . فنحن لا نريد نخبا فاسدة تفسد فرحة المغاربة وتساهم في إشاعة الخوف والريبة لدى ساكنة الأقاليم الجنوبية من القادم ،رغم أن صاحب الجلالة اكد في خطابه انه هو الضامن الفعلي لتنزيل الحكم الذاتي. ومع ذلك فلا بد من وجود نخب مسؤولة وذات مشروعية تاريخية وانتخابية وذات مصداقية لدى المواطن الجنوبي ،وخصوصا من هم في الضفة الأخرى والذين ينظرون بشوق ويتطلعون إلى بزوغ فجر الحرية والذي نعتبره قريبا بمؤسسات وهيئات وبنيات في مستوى هذا الحدث التاريخي الكبير ،والذي سينعكس أثره ليس على المغرب والمغاربة وإنما على المحيط المغاربي والإفريقي .
إعداد بيئة ملائمة عبر محاربة الفساد والريع بكافة أشكاله :
إتخذت الدولة العديد من البرامج منذ إسترجاع الأقاليم الجنوبية إلى حظيرة الوطن الأم وأقيمت العديد من المشاريع في مختلف المجالات وذلك بهدف تحقيق تنمية حقيقية ، لكن ذلك لم يمنع من وقوع العديد من الإشكالات التنموية والذي كان من نتائجة غياب عدالة مجالية وحرمان العديد من المواطنين من قطف ثمار التنمية وهو ما أثارته خلاصات المشاورات الخاصة بتنزيل النموذج التنموي ، هذه الوضعية مكنت فئة قليلة من المحظوظين من ساكنة الأقاليم الجنوبية من الاستحواذ على مقدرات الدولة والعبث بها وتكوين ثروات طائلة ،أصبحت بفضلها هذه العائلات تتحكم في كافة الموارد سواء المتأتية من الدعم المركزي ،وكذا الاستفادة من الوعاء العقاري بشكل مبالغ فيه مما حرم معه العديد من المواطنين البسطاء من الإستفادة من البرامج التي اطلقتها الدولة والتي انفقت فيها ملايير الدراهم ، لكن الأدهى والأمر أن تتحول هذه الفئات الصغيرة إلى لاعب محوري يحدد مصير الإقليم وساكنيه ويصنفهم بين الموالين والأعداء بل يوزع عليهم صكوك الوطنية والولاء ، لذلك نرى من الواجب على الدولة تحمل مسؤوليتها كاملة في محاربة المفسدين أيا كانوا ،وضمان تمثيلية حقيقية لكافة المواطنين وإحترام مبدأ التعددية القبلية وتوجيهه في اتجاه إيجابي كعناصر للوحدة واللحمة ،فلا يمكن قبول تحكم اقلية تحت أي ذريعة في مقدرات المنطقة وخيراتها ،لذلك نحن في حاجة إلى خلق جيل جديد من الإصلاح السياسي والمؤسساتي الذي يسمح بتعزيز حكم القانون ويؤسس لجهوية بمضمون سياسي يمكن السكان من إدارة شؤونهم عبر مؤسسات تنفيذية وتشريعية حقيقية يجد كل مواطني الجنوب أنفسهم ممثلين حقيقة لا وهما .
في الحاجة إلى تثمين العنصر البشري موازاة مع تطوير العمران :
لقد أرسى النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية لدينامية حقيقية تقوم على تأهيل البنيات الأساسية بالأقاليم الجنوبية ،وأصبحت بفضل ذلك تتوفر على بنيات تحتية متقدمة مما يؤهلها لتصبح بوابة حقيقية نحو إفريقيا ومنطقة لوجيستيكية كبرى في شمال القارة ،تصل ما بين دول الساحل والصحراء عبر الموانئ والمطارات والطرق والمحطات الكبرى ، لكن يبقى السؤال المطروح ما مدى استفادة العنصر البشري وخصوصا على مستوى تأهيل البنيات التمثيلية والأجهزة المنتخبة محليا وجهويا لتمثيل الساكنة ،حيث ان هذه الأخيرة وعلى عكس التجارب الأولى لم تعد تعكس ذلك التنوع والتعدد حيث اصبحنا نعيش نوعا من الاحتكار والتأميم المسبق والممنهج للبنيات المنتخبة ، مما جعل الكثير من أبناء المنطقة يسجلون امتعاضهم من تعاظم وتضخم نفوذ المجموعات المستفيدة من تأميم التمثيلية عبر التغاضي عن عمليات الإفساد التي كانت تمارس بين الفينة والأخرى تحت ذرائع ومبررات شتى ، لذلك فلا مناص من ترسيخ الخيار الديموقراطي فهو الضمانة الوحيدة لتشجيع إنخراط الساكنة وضمان أصواتها ونسبها العالية ،بعيدا عن بعض الممارسات الماضوية والدوباج الذي كان ولا زال يمارس بدرجات معينة لرفع نسب المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية خدمة لهذا الطرف او ذلك مما يخل بحرية الاختيار الواعي والمسؤول للساكنة .
وعلى سبيل الختم:
وكخلاصة عامة إننا اليوم أمام لحظة فارقة في تاريخ أمتنا المغربية العريقة والتي حظيت دائما بتقدير دول العالم مدعون إلى ترسيخ الخيار الديموقراطي عبر إجراء انتخابات شفافة ونزيهة فلا حكم ذاتي دون ممارسة ديموقراطية حقيقية تفرز نخبا حقيقية وذات مصداقية ،كما أن أي حكم ذاتي يجب أن يكون جزءا من مشروع ديموقراطي كبير وشامل يضمن العدل والحرية والمشاركة الفعلية لجميع المغاربة ويستفيد من ثماره الجميع ، وعلينا اليوم كمغاربة وكفاعلين سياسيين ومجتمعيين ان نكون مستعدين لحماية نجاحات بلدنا والتي لولا القيادة الحكيمة لجلالة الملك لما حققنا ما حققناه اليوم من منجزات يعجز المرء عن تعدادها ، وهي مناسبة لدعوة الحكومة الحالية ان تستيقظ من سباتها وتضع حدا للغة المصالح واللوبيات فبلادنا بحاجة إلى مؤسسات حقيقية قادرة على الفعل والعطاء لحماية الشعب والأرض والعرض .
إن الحكم الذاتي باعتباره نهجا خلاقا وممارسة فضلى تنحو الجمع بين مبدأ حرية الإنتماء والحق في سلامة الوحدة الترابية للدول، يحتاج إلى ضمانات حقيقية تقوم على الديموقراطية الحقة وحقوق الإنسان وحكم القانون، والإلتزام بالثوابت الجامعة للأمة المغربية الممتدة لقرون والقائمة على روابط جامعة ومنها الدين الإسلامي السمح والعقيدة الأشعرية والوحدة الترابية ففي غياب هذه المنظومة المتكاملة، فإن الحكم الذاتي كخيار سياسي للحفاظ على الوحدة، لن يحقق أهدافه ولن يبلغ مبتغاه وهو تحقيق الإندماج الكلي المنشود.
*أمري محمود نائب برلماني سابق