اليوم، على متن البراق: في المعنى الآخر لـ”سطوب تي جي في 2012″

في بداية سنة 2012، بمبادرة من جمعية “وضوح، طموح، شجاعة” ورفقة مجموعة من جمعيات المجتمع المدني، أطلقنا حملة “سطوب تي جي في”. كان التركيز في الحملة على رفض المشروع الذي وقعه آن ذاك إلى جانب ملك البلاد الرئيس الفرنسي. جاء ساركوزي الوقح (خطاب داكار العنصري ليس إلا جزء من وقاحة السياسي الاستعماري) زائرا المغرب كبائع بضاعة فخور بامتيازات راكمتها بلاده عبر تاريخ من الاستعمار المستمر. استنكرنا حينها منطق الأحادية في اتخاذ القرار بالمغرب (غياب الاستشارة وضعف الآلية الديمقراطية في اتخاذ القرارات السيادية). ولتوضيح الجانب الاقتصادي قام أصدقاء تقنيون، بعد اتساع المشاركة إثر ربيع 2011، بمقارنة كلفة المشروع مع مشاريع أخرى ممكنة كبناء 5000 مدرسة أو إنشاء 36 ألف وحدة صناعية أو إنشاء 52 مركز استشفائي مجهز بشكل كامل.
اليوم وأنا أركب لأول مرة هذا القطار في المغرب بعدما قضيت سنوات أتنقل على متنه في أوربا، أتساءل عن معنى “سطوب تي جي في ” في 2012 وما إذا كانت الحملة، من زاوية نظر اليوم، إيجابية. فأوضح مع ذاتي شيئا أوليا يرتبط بمسألة اليسار عموما والحراك الاجتماعي المسؤول : أتذكر مثلا أنني وأنا أستقل هذه التكنولوجيا في أوروبا فأنا لا أتردد في ذات الآن بالمشاركة ضمن حركات مناهضة لها. فساهمت مؤخرا في لقاءات تضامن مع حركات مثل “نوطاف” المناهضة للقطار السريع في مناطق شمال إيطاليا (فالي دي سوزا) أو حركات مناهضة لبناء المطارات مثل “لازاد نوتر دام دي لاند” في فرنسا، حيث يختلط النضال الإيكولوجي مع المسألة الاجتماعية. فمناهضة مشاريع من هذا النوع تخضع حتما لضرورة فهم السياق التاريخي والسياسي وليس فقط معارضة التقنية في حد ذاتها.
تراجع الحس النقدي مقابل الانبهار
ما يثيرني في نداء معارضة “التي جي في” سنة 2012 مقارنة مع لحظة إطلاق الجزء الثاني في أبريل 2025 أمران أساسيان :
أولا التراجع الكبير لحركات المجتمع المدني أمام تغيرات تقنية واقتصادية، وبذلك تكون إما راضية قابلة بها لأنها سلّمت بكون ذلك الطريق هو السليم الذي يجب سلكه حتى وإن اقتضى الأمر تسطيره بطريقة أحادية ودون إشراك في القرار (حيث تنتظر النخب الجديدة الإشراك فقط في الأرباح والنتائج الإيجابية عليها وعلى طبقتها). أو القبول الخاضع لعدم قدرة تلك النخب على طرح بدائل ومعارضة لمشاريع اقتصادية تجعلها شاخصة أمام عجلة اختارت طريقا لا رجعة فيه. فصحيح أن التحولات الاقتصادية الكبرى التي يعرفها المغرب عبر برامج الخوصصة والأوراش الكبرى ومدن بدون صفيح والتهيئة المجالية للمدن والمجهود على مستوى الصحة والبنيات التحتية وحتى بعض الصناعات، كلها تحولات تجعل السياسي النقدي فاقدا للقدرة على تشخيص سريع يمكنه من إعادة تحيين خطابه وفهم آليات السلطة والمظاهر الاجتماعية المؤلمة الجديدة. فعدد من المعارضات تسير بخطى حثيثة نحو الأفول ما لم تعمل على فهم الواقع الحالي وترجمة التطلعات الجديدة وتحديد أفق سياسي يأخذ بعين الاعتبار المشاكل التي تنفجر كل يوم أمامنا رغم كل الأضواء المثيرة ورغم ضجيج وأرقام التنمية وصورها. كما أن عددا آخر من هذه المعارضات اختارت ليس الأفول والصمت، بل فقط التماهي مع البنيات الاقتصادية الجديدة، فغادرت السياسة نحو الأعمال أو نحو ما تسميه ب”العمل المؤسساتي” حتى تظل ضامنة لقدم في الخطاب السياسي وحقوله.
ثانيا، أثارني في نداء 2012 خطاب في جوهره لم يكن رافضا للقطار السريع : ربما من حملوه في تلك الفترة كانوا ينتقدون بالأساس عدم إشراكهم. أما اليوم، فالتنمية التي دخلها المغرب بعلاتها فهي تجعلهم يكونون بالضرورة في قلبها مادامت تحتاج لرأسمالهم التقني على الأقل. لكن رغم هذا التآكل المنتظر والطبيعي لمسار النخب في بلدان التنمية الحديثة، ففي نداء 2012 يوجد كذلك حس نقدي عميق لا يختلف مع التي جي في ولكنه يذكر بضرورة الذهاب أبعد من امتلاك تقنية فرنسية عبر الاستدانة. وهذا الأمر هو الذي يهم اليوم أكثر من أي شيء في هذا المجال : فهو لم يتحقق بعد. إن ذلك النداء طالب بالوحدات الصناعية وإصلاح عميق للمدرسة العمومية مثلا. أتذكر تلك النقاشات التي تأتي من مسار ديكولونيالي وإصلاحي وطني طويل، لا معنى له اليوم أن يخفت تحت صدمة تنمية ابتلعت الكثير من النخب.
مسار تنميتنا ـ بعلاتها ـ هي نتيجة للنضالات وتحقيق انفراج سياسي يجب أن يعود
وأنا أشاهد التطورات التقنية المهمة، أريد التذكير بأنه لا تناقض بين الاعتراف بما هو إيجابي في المسار الاقتصادي الحالي وبين ضرورة الاستمرار في التغيير وكذلك تحويل المسار نحو اتجاهات كثيرة للسياسة التي لم نتقدم فيها بعد. ثلاثة ملاحظات في هذا الأمر :
- لا بد من الاعتراف بإيجابيات التحديث التي انعكست إيجابا على حياة جزء مهم من المغاربة : فشخصيا لست مقاطعا ل “التي جي في” اليوم كما كنت سنة 2012، رغم أني أعتبره سلعة غير مكتملة مادمنا لا نصنعه ولا نصنع عدد كبير من الصناعات التي نحتاجها وما دامت مناطق عديدة معزولة. كما أنني أفتخر بعدد من منجزات التهيئة العمرانية التي خاضها المغاربة وبعض المشاريع العمومية والشعبية خاصة تلك التي تدر دخلا وتكوينا وتطبيبا لجزء من المغاربة. لكن، لا بد من التأكيد على أمر أساسي حول هذه القضايا : إن هذه الواجهات المهمة لم تأت بها الانتخابات/المهزلة التي جرت سنة 2021، ولا الحكومة الحالية ولا التدبير الأحادي الجانب المفروض. فعكس ما تعتقده النخب الصامتة (التي صمتت على إبادة غزة كما على الوضع في تازة)، فإن مسار التحديث الحالي لم يكن ممكنا لولا الانفراج السياسي الذي قطع مع سنوات الرصاص وتازمامارت ومسار القروض والخضوع للتقويم الهيكلي الذي فرض اقتصاده وأدى بنا في نهاية الثمانينات إلى “سكتة قلبية” باعتراف الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله. ولم يكن هذا المسار ممكنا دون تحرير نسبي للتعبير عن الرأي، أي عن إمكانية طرح مشاريع اقتصادية دون التعرض للاختفاء ودون عنف خارج القضاء تجاه فاعلين سياسيين. فلم يكن ممكنا أن تبزغ طبقة متوسطة جديدة (ليبرالية وداخل هياكل الدولة) دون ثقة جزء من المغاربة في إمكانية العمل السياسي ودون جامعة وطنية حافظت على استقلالها النسبي وعلى حيوية عملها النقابي. بلغة أخرى، لم يكن ممكنا دون أحزاب سياسية ومجتمع مدني ضاغط ومتفاعل ومتفاوض مع الدولة. فالتحديث ومظاهر التحديث ليست سوى انعكاس لنوع من الثقة بنيت على أساس هذا المسار، بعلاته وبتراجعاته وتردداته. أما التراجعات الحالية في مجال الاعتقال السياسي (معتقلي الريف والأخطاء الفادحة في قضية اعتقال الصحفيين)، فهو ليس إلا تهديدا لهذا المسار الفتي والذي يحتاج لتغيير وتطوير كبيرين وليس إلى الانحطاط.
- يحتاج المسار المغربي الحالي إلى وقفة تأمل في خصوصيته التي اكتسبناها من حيوية المجتمع المدني، السياسي والاقتصادي، لكن كذلك ـ حتما ـ من نفسية خاصة لها ارتباطات بالثقافة والتاريخ والدين : فنجد مكوناتها دون شك في تاريخ الصراع مع المستعمر، تاريخ وحاضر الصراع مع آليات المراقبة والإكراه، تاريخ التجديد الديني والصراع بين التقليد والغربنة، حركية المجتمع القبلي المتشعب، نفسية المعقول والوطنية (patriotisme) بما هي كرامة ورفض للظلم وجموح نحو المساواة ونحو التضامن في الداخل ومع الجيران وليس بمعنى التقوقع والتفاخر المفرط والفارغ من قيم الأخوة. فمحاولة تبخيس هذه القيم باعتبارها ماضوية أو مزعجة لن يؤدي إلا نحو طريق مغلق أي عكس حتى المكتسبات القليلة الحالية. كما أن تحجر هذه القيم وعدم تطورها داخليا لن يؤدي سوى إلى عزلة سيكتارية (sectarisme)
- لا يتعلق المسار الحالي بمعجزة خاصة. فكان يمكن أن تبدو كذلك (معجزة صغيرة) رغم كل التناقضات داخل المجتمع فقط لو بني ذلك المسار مثلا على حرية كاملة وسياسة شاملة للقضاء على الفقر والتفاوتات، وعلى تكامل وتواصل مغاربي على الأقل. فرغم كل المنجزات لا زلنا لم نرق إلى الاكتفاء الذاتي فلاحيا، ولم ندخل عهد التصنيع الذي يمكننا من استخلاص المواد الأولية والصعود في سلم القيم التقنية لاستخراج المعدات اللازمة لتغطية حاجياتنا وتصديرها ومواجهة المخاطر الإيكولوجية المرتبطة بها. لازالت إدارتنا وتدبير مواردها البشرية خاضعة لضعف كبير في التكوين والتنظيم. والأعظم من كل ذلك لازال الاستعمار الجديد يفرض علينا خضوعا كبيرا كما كل دول الجنوب عبر سياسات الحدود وتوجيه الاقتصاد وتهديد دائم للأرض في مقابل غياب القدرات الصناعية الدفاعية وغياب التكتلات الإقليمية والتكاملات الاقتصادية مع دول الجنوب والإقليم (حتما بناء على أخطاء غياب إرادة مشتركة)، أو حتى القدرة على التفاوض لنكون جزء من تكتلات الشمال نفسها وضخ قيم بديلة عن الاستعمار. كلها أشياء تحتم تواضعا كبيرا، تكاثفا في الجهود، نبذا للاعتقال، قضاء حرا نزيها، حرية كاملة. كلها أشياء تستوجب يقظة وشجاعة أكبر. وكلها قضايا تقتضي علينا العودة للمطالب الأولى (من التصنيع إلى الديمقراطية، من الحريات والحقوق الأساسية إلى مناهضة الاستعمار الجديد). إنه الواقع الذي يحدنا من الدخول في جيل جديد من سياسة مناهضة السلطويات الحديثة (لنطرح قضايا السياسات العمومية ومراقبتها، قضايا السجن والجريمة، قضايا الإيكولوجيا الراديكالية، قضايا الأقليات الأساسية والعنصريات والتربية، إلخ.).
اليوم، على متن هذا القطار السريع، لا تهمني تقنيته المستوردة (علينا أن نصنعها ونصنع أفضل منها وأقل تدميرا للطبيعة وأكثر احتراما للدول التي استغلتها فرنسا في طبيعة صناعتها). كما لم يعد يهمني موضوع مقاطعته إذا ما تم توظيف اقتصاد الدولة، تحت مراقبة شعبية ومؤسساتية صادقة، لتحقيق جزء من أهداف حركات التغيير. بل أنظر إلى أفق امتلاك التقنيات التي نحتاج لمواجهة تحديات المستقبل ومعالجة مشاكل الحاضر وأخرى ستطرح بحدة في مسارنا الديمقراطية والتنموي الفتي والمهدد من قوى الفساد الداخلي وسياسات دول الشمال. للخروج من التبعية، للخروج من الفساد، لتحقيق الديمقراطية، دون أي تقليد أعمى للغرب ودون المرور من مسالكه الكارثية التي يشهد عليها الحاضر في الشرق الأوسط وعلى الحدود، كما يشهد عليها التاريخ.