story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الهشّ على الفساد

ص ص

من غير المنطقي تجاهل الأبعاد السياسية لما نعيشه منذ بضعة أشهر من اعتقالات ومحاكمات في ملفات لا تحمل من “الحق العام” إلا ما يبرر اتخاذ قرارات البحث والاستماع والاعتقال. وإذا كانت هذه الملاحقات تعني إنفاذ القانون والمساواة أمامه، فإنها في المقابل تضع علامة استفهام كبيرة على المعادلة السياسية الحالية ومصداقية أكثر المؤسسات حساسية: البرلمان والحكومة.
نواب برلمانيون ومستشارون (سيناتورات) بالعشرات بين معتقل ومطارد ومتابع في حالة سراح. أكثر من فريق برلماني أو ما يقارب عشرة في المئة من “ممثلي الأمة” ومجسدي سيادتها، في دائرة الاشتباه والاتهام والإدانة. وتفاصيل الملفات “واحد ينسيك في الآخر”، بين خيانة للأمانة ونصب واحتيال وتزوير وتلاعب وتواطؤ وتمرير للصفقات… ومن المؤكد أن ما خفي أعظم، بما أن الفاسدين والمجرمين يحرصون على إخفاء جرائمهم.
لنسجل أولا أننا في حملة تطهير فعلية دون مواربة. أشخاص ينتمون إلى ما ظل يعتقد إلى وقت قريب أنه دائرة حصانة وإفلات من العقاب: سياسيون (بعضهم “ضاسر” و”مفرعن”)، وأثرياء منهم من “يحسب أن ماله أخلده” (صدق الله العظيم)، ومشاهير من عوالم الفن والرياضة.
لا داعي لذكر أي اسم أو اقتحام حق أي كان في قرينة البراءة. لكن الصورة لم تعد تسمح بأي تجاهل أو إنكار لما يجري.
فكثير ممن امتدت إليهم يد القضاء والمساءلة والحساب لم نكن نتخيل مجرد التفات أدوات إنفاذ القانون نحوهم. واليوم في حصيلة جزئية وغير شاملة، نحن أمام عشرات المسؤولين و”الأقوياء” والنافذين إما خلف القضبان أو في مرحلة تحقيق أو مساءلة.
منتخبون وبرلمانيون وأعيان ووسطاء احترفوا السعي بين المال والسلطة وتزويج أحدهما بالآخر. وتحقيقات كنا نخالها “نائمة” في رفوف الفرق الوطنية والجهوية للشرطة القضائية والنيابات العامة نفض عليها الغبار، والكثير، نعم بمقاييسنا نحن هم كثر، ممن كنا نعتقدهم “فوق القانون” هم الآن يسألون ويحاسبون.
لا لون سياسي أو أيديولوجي موحد لمن طالتهم يد القضاء والتحقيقات، ولا داعي للتعسف في ذلك. لكن من المفيد تسجيل أن الانتماءات السياسية للمتابعين والمعتقلين والمدانين، تضم وبشكل خاص حاملين لبطائق الانخراط في أحزاب التحالف الحكومي الحالي. برلمانيون وأعيان ونافذون من التجمع الوطني للأحرار ومن الأصالة والمعاصرة ومن حزب الاستقلال، يُقتادون تباعا نحو الزنازين وكرسي الاتهام، (إلى جانب اتحاديين وحركيين وتقدميين…).
ليسوا وحدهم نعم، لكن من الضروري تسجيل هذا المعطى لأن ما عشناه في السنوات الأخيرة كاد يرتقي إلى درجة التمكين الفعلي والمؤسساتي للفساد والمفسدين مع شبهة وجود ضوء أخضر. وهناك اليوم من يعمل ويجتهد ليبعث رسالة مضادة ويقول إن توظيف الفساد والمفسدين الذي ثبت في لحظات معينة لا يعني بالضرورة تسليم مفاتيح البلاد لمن يعيثون فيها فساد، (الله يجازيه بخير).
الظلم مؤذن بخراب العمران، ولا ظلم أخطر وأكبر من تحويل الشأن والمال العامين إلى غنيمة بين أيدي الفاسدين. الدولة تعي هذا الأمر جيدا وتعبّر الآن بوضوح عن حرصها على منع وقوع الأسوأ وانهيار السقف فوق رأسها ورؤوس الجميع. “العدل أساس المُلك” كما يقول التعبير المأثور.
هل نجحنا وربحنا معركتنا ضد الفساد؟ أبدا. ما يحصل حتى الآن يجوز أن يكون بداية في أحسن الأحوال. سألت مؤخرا رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، محمد البشير الراشدي، عن السبب الذي يمكن أن يحملنا على الاعتقاد أن سنة 2024 يمكن أن تكون بداية حرب حقيقية ضد الفساد، فقال إنها دعوة وليست إعلانا من جانب هيئته.
يبدو أن الدعوة مسموعة حسب هذه المؤشرات، يبقى أن الاستجابة المهمة والمحمودة حتى الآن لن تحقق أهدافها إلا أذا استمرت وتوسعت، لأن ما يقوم به القضاء حتى الآن هو من قبيل الهش على الفساد، (“قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي”، صدق الله العظيم).
هل يعقل أن نواصل الفرجة على هذه الأفلام البوليسية دون أن نتساءل: ما الذي أوقعنا في هذه الحالة من التمكين المؤسساتي والسياسي للفساد؟ ما الذي دفع كل هؤلاء الفاسدين إلى الخروج من الجحور وترك الحيطة والجرأة على الأضواء السياسية والإعلامية بهذا الشكل الذي أغرقنا في بركة من وحل الشبهات؟
ألم يصدر عن سياساتنا وقراراتنا واختياراتنا ما شجّع الفاسدين ومنحهم الأمان، بل ربما شجعهم وحفّزهم على التقدم للانتخابات؟ وبما أنهم فاسدون رسميا فلم لا نشك في كونهم اشتروا الأصوات وضغطوا وابتزوا كي يحصلوا على المنصب؟
إننا في الطريق نحو واحدة من أكثر الفترات السياسية فساد وانطباعا بشبهات التلاعب بالإرادة الشعبية في تاريخ المغرب المستقبل، والتنسيب هنا من باب الاحتياط وانتظار الدراسات العلمية التي ستحلل المعطيات الإحصائية لتأتينا بالخبر اليقين، بعد ضم قرارات المحكمة الدستورية إلى أحكام القضاء في مواجهة نخبة 8 شتنبر 2021.
وبدل الاكتفاء بالمسكنات ومدونات السلوك التي تخفي القيح ولا تنظف الجرح، يجدر بنا طرح السؤال الكبير: ألا يعني ما يجري من افتضاح لقسم كبير من الطبقة السياسية الحالية أن علينا إعادة النظر في تركيبة المؤسسات السياسية الحالية ودعوة الشعب إلى الاختيار من جديد؟ ألا ينبغي لنا الاعتراف من الآن بمسؤولية من هندس لانتخابات 8 شتنبر 2021 وفصّل قوانينها ونسج تحالفاتها عن هذا السرطان الذي ينخر الدولة؟