story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

الميثاق السياسي والمسألة الدستورية في الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان

ص ص

تناولت الوثيقة السياسية للجماعة المسألة الدستورية في المحور السياسي، وأكدت على أهمية الميثاق والتوافق السياسي لإنجاز دستور ديمقراطي، بمثابة مدخل استراتيجي لتحقيق نظام سياسي قائم على سلط حقيقية ومستقلة ومتوازنة ومتعاونة، وعلى مؤسسات مدنية فاعلة ومبادرة، من أجل إرساء دولة العدل وهي دولة مدنية قائمة على حكم عادل ومنضبط للتعاقد الدستوري المنبثق عن الإرادة الشعبية؛ وهي الدولة التي ينبغي أن تنضبط لمجموعة من المبادئ كما نصت على ذلك الوثيقة:


• مساواة الجميع أمام القانون، حكاما ومحكومين، وحماية حقوق وحريات كل المواطنين بواسطة نص الدستور والمؤسسات والآليات القانونية والقضائية، التي تسمح بمواجهة كل شطط من شأنه المس بالحقوق والحريات،
• جعل كرامة الإنسان في المقام الأول، فلا معنى لوجود حرية وديمقراطية سياسية في ظل استعباد اقتصادي واجتماعي للمواطن بدعاوى مختلفة،
• جعل التعددية السياسية أساس العمل السياسي، مع ما يتطلب ذلك من ترسيخ لثقافة القبول بالآخر مهما كانت الاختلافات والتباينات. فالوطن يسع جميع أبنائه، وثقل تركة الاستبداد يفرض على كل الغيورين أن يمدوا أيديهم لإنقاذ هذا الوطن والنهوض به من جديد،
• تحييد المساجد والمؤسسات الدينية عن الصراع الحزبي والانتخابي، ومنع احتكارها وتوظيفها لتبرير التسلط من قبل الدولة ومؤسساتها الرسمية، مع ضرورة تأطيرها وتنظيمها لجعلها مجالا للمجتمع وقواه الدعوية والعلمية والمدنية.

نستهل تحليل ثنائية الميثاق السياسي والمسألة الدستورية في علاقتهما بتحقيق النظام الديمقراطي بهذا الاقتباس من الوثيقة السياسية، الذي نصه كما يلي: “نستحث الفاعلين والتيارات والأحزاب على توسيع مساحات التوافق بحثا عن تلاقي إرادة الشعب بإرادة نخبه الحية. إننا نروم هنا استبعاد وتجاوز منطق الغلبة والاكتساح الذي تتيحه الآلية الانتخابية حين يختار الشعب الجمعية التأسيسية المكلفة بوضع الدستور، ونطمح أن تبحث القوى عن أفضل السبل وأنجعها للوصول إلى » هيئة منتخبة «تحظى بأوسع قدر من التوافق ، يجد الجميع فيها ذاته وتشكل اختيارا ينتصر لكل المغاربة. ولعل من الصيغ الممكن التوافق عليها تقديم مرشحين مشتركين للجمعية التأسيسية.

بهذا المنطلق تكون رؤية الجماعة للمسألة الدستورية ، لا تنفك عن ثنائية الدستور والتوافق السياسي لتلتقي إرادة الشعب بتطلعات نخبه، بعيدا عن أسلوب الاحتكار والغلبة الذي قد تفرضه الديمقراطية العددية، وما يفرزه هذا المنطق التغلبي من توترات وارتدادات ، قد تعصف بمسار البناء الديمقراطي خاصة في المراحل الانتقالية، الشيء الذي أثبتته التجارب السابقة والمعاصرة، ولنا في تجارب ما بعد ربيع 2011 دروسا وعبرا مثلى.

لذلك تقترح الوثيقة السياسية مدخل الميثاق السياسي، بما يقتضيه من البحث عن المساحات المشتركة عبر الحوار البناء في أفق ترسيم توافقات وتسويات وتفاهمات تشكل إطارا مرجعيا بمثابة ميثاق سياسي، يترجم المبادئ المؤسسة.

وبالرجوع إلى الوثيقة السياسية نستخلص أنها ركزت على عنصريين أساسيين بخصوص علاقة الدستور الديمقراطي ببناء دولة العدل ، ويتعلق الأمر بأهمية التعاقد من خلال ميثاق سياسي يعبر عن إرادة التوافق(الفرع الأول) ويتعلق الأمر الثاني بالسلطة التأسيسية الجماعية كمدخل جوهري للدستور الديمقراطي (الفرع الثاني).

الفرع الأول: الميثاق السياسي إطار مرجعي جامع

تركز مختلف التجارب التاريخية على أهمية التوافق السياسي في صياغة الوثائق الدستورية الانتقالية، التي تعبر عن إرادة التوافق بين مكوناتها، على اعتبار أن هذا الدستور حينها يشكل ميثاقا سياسيا، يترجم إرادة أطرافه في بناء مستقبل الديمقراطية، فماهي مقترحات الوثيقة السياسية لعقد هذا الميثاق الجامع؟

يعرف الميثاق لغة بأنه : العهد والاتفاق، والتوثيق والضبط. موثوق فيه أي عدل حاز الثقة. والميثاق على وزن “مِفْعالٍ” اسم آلة وأداة لبناء الثقة، أما في الاصطلاح السياسي، فيقصد به التوافق بين مكونات مجتمعية على أساس المشترك والمتفق عليه.

وفي هذا الإطار تقترح الوثيقة السياسية في مسلسل صياغة دستور ديمقراطي مجموعة من المقترحات، منها صياغة ميثاق جامع عن طريق الحوار والتوافق، يعبر عما أسمته الوثيقة ب” الرؤية الاستراتيجية” التي يمكن الاصطلاح عليها ب “وثيقة المبادئ فوق الدستورية”.

يتعزز هذا المقترح باستحضار التجارب الناجحة في التوافق السياسي وأهميته في تحقيق الانتقال السلس، ومنها اتفاقية “لامنكلوا” في التجربة الاسبانية الملهمة التي يمكن اعتبارها مثالا نموذجيا في هذا الإطار، وقد ساعدت هذه الاتفاقية في خلق سلم اجتماعي حقيقي مكن من تحقيق قفزة اقتصادية حقيقية .

كما أن التوافق السياسي بين أطراف الميثاق يجعل من النص الدستوري مادة حيوية مؤطرة لكل مسار ومراحل الانتقال ، ولا يصبح بذلك عمل أفراد بل عمل مؤسسات، وهذا ما يستشف من تحليل Camau Michel عندما قال بأن: “الأطراف السياسية للانتقال الديمقراطي تضع الشرط القانوني باعتباره أولوية الأجندة السياسية ومن ثم فهي تجعل عمل الانتقال ليس مجرد عمل أشخاص حاملين لفكرة الانتقال ولكن أيضا عمل مؤسسات “.

وهذا ما يكرس مبدأ الاتفاقية الدستورية حيث يعتبر Pierre Avril أن الدستور “لا يختزل في القانون المكتوب” ، لأن الدستور في هكذا سياقات لم يعد نصا نظريا منتج لسلوكات إكراهية، بل هو مرتبط بطبيعة السياق السياسي الذي أفرزه، ورهان الأطراف السياسية التي أنتجته، وهذا ما أكدته لنا التجارب المقارنة، ومنها التجربة الاسبانية .

وتبين لنا هذه التجربة المتميزة، أهمية الدستور الاسباني التوافقي لسنة 1978 في إنجاز الانتقال الديمقراطي السلس، من خلال إشراك جميع الأطراف في صياغته جاء نتيجة تعاون بين مختلف الحساسيات السياسية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار مقارنة مع باقي الدساتير التي شهدتها إسبانيا في الماضي .

وبهذا الصدد، فقد سعت حكومة أدولفو سواريث إلى إشراك جميع الحركات السياسية في مشروع تحرير بنود الدستور لتحقيق الإجماع وتفادي فشل الدساتير السابقة التي بلغت 12 دستورا منذ بداية القرن 19، انتهت كلها بالفشل .

وارتباطا دائما، بالتجارب المقارنة، تقدم تجربة جنوب إفريقيا نموذجا متميزا لمسلسلات الدمقرطة، حيث اتضحت أهمية وأولوية المدخل الدستوري في معادلة الانتقال، وهو ما أسس لنقاش مؤسساتي قادر ليس فقط على تحقيق لحظة الانتقال الديمقراطي، ولكن الارتقاء بمسلسل الدمقرطة إلى مستوى التدعيم .

يتأكد مما سبق أهمية فكرة الميثاق كما اقترحتها الوثيقة السياسية وعززتها التجارب المقارنة ، هذا الميثاق السياسي الذي يشكل آلية لتأطير مسار إنتاج القواعد الدستورية، ولصياغة وثيقة دستورية توافقية، تعيد تشكيل فلسفة النظام السياسي والعلاقة بين السلط وفق جغرافية دستورية جديدة مؤسسة لأركان النظام السياسي الجديد المتفق بين مكوناته حول شكله ومضامينه، وهي وظيفة الدستور التي تكمن في “مأسسة الحياة السياسية بما يعني ذلك من إرساء بنيات وأليات لتنظيم وتأطير ممارسة السلطة والصراع للوصول إليها “.

الفرع الثاني: السلطة التأسيسية الجماعية مدخل للدستور التوافقي

تقترح الوثيقة السياسية لصياغة الدستور الديمقراطي التوافقي التمسك بالأشكال الديمقراطية لوضع الدستور، وتضع في المقام الأول ما يسمى في الفقه الدستوري ب ” الجمعية التأسيسية غير السيادية”، وهي السلطة التأسيسية الأصلية مما يعني انتخاب الشعب لهيأة تضع مشروع الدستور، ثم يطرح هذا المشروع على الشعب في استفتاء عام حر ونزيه من أجل قبوله أو رفضه.

فما هو مفهوم السلطة التأسيسية الأصلية؟ وما جذورها التاريخية في التجربة الدستورية المغربية؟ وما المدخل الذي تقترحه الوثيقة السياسية في هذا السياق لدمقرطة هذه السلطة في أفق صياغة دستور ديمقراطي؟

تعتبر السلطـة التأسيسيـة الأصليـة Pouvoir constituant originaire)، هي المسؤولـة عـن وضـع الدستـور (نتحدث وضع الدستور وليس المراجعة) تسمـى وهي لا تعمر طويلا، وتنشأ في ظل الفراغ القانوني (غياب مقتضيات دستورية تحدد وضع الدستور) وتختفي مباشرة بعد وضعه.

ويربط الفقيه الفرنسي كاري دي مالبيرك (CARRE DE MALBERG) مبدأ فصل السلط بنظرية وجود السلطة التأسيسية الأصلية؛ أي وجود سلطة وحيدة uniqueسامية suprêmeمطلقة abslue بدئيةinitiale ، يكون وجودها سابقا للسلطات الثلاث (السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية)، بحيث تتولى وضع دستور تحدد فيه توزيع الاختصاص بين هذه السلط بكل حرية.

والسلطة التأسيسية هي الممثل الحقيقي للأمة، ويجب أن تتولاها جهة تكون قريبة جدا منها ، تتمتع بالسيادة، ولها سلطة عامة، غير مشروطة وغير محدودة، ولا يجوز أن تتلقى الأوامر أو تلصق بها صبغة التنفيذ.

في التجربة المغربية ظل الملك محتكرا للسلطة التأسيسية الأصلية منذ دستور 1962، واستمر الصراع محتدما بين القوى السياسية والقصر حول طبيعة السلطة التأسيسية ، فبين مطلب الجمعية التأسيسية ، ورؤية الملك لمنهجية الإصلاح الدستوري .لكن الحسم في هذا المنطق كان رهينا بميزان القوى الغير المتكافئ.

وفي هذا السياق، ولمواجهة الحركة الوطنية، وظفت المؤسسة الملكية مجموعة من الآليات التدبيرية والمؤسساتية، أبرزها الاستعانة بالنخب القروية، حيث أدرك النظام السياسي في وقت مبكر جدا بأنه بالاستناد على هذه النخب سيتمكن من التحرر من قبضة الحركة الوطنية ، وهكذا سيتم إقبار مطلب الجمعية التأسيسية المنتخبة بل سيدخل هذا المطلب متحف التاريخ الدستوري المغربي على حد تعبير محمد المعتصم .

ويرى الباحث المغربي الأستاذ محمد منار باسك في دراسة دستورية تحت عنوان “دستور 2011 في المغرب: أي سياق؟ لأي مضمون؟ نشرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ، بأن المسألة الدستورية لم تشكل على أهميتها أولوية عند جل الأحزاب السياسية لحظة حصول المغرب على الاستقلال، بحيث تم الاهتمام بقضايا أخرى كالانتخابات وتنظيم الإدارة المغربية و غيرها ، وكانت النتيجة أن تأخر المغرب في إقرار أول دستور إلى سنة 1962 رغم أنه حصل على الاستقلال سنة 1956. فست سنوات من الفراغ الدستوري .أو من الوقت الضائع كما سماها الأستاذ عبد الهادي بو طالب شكلت مفارقة واضحة في التأسيس الدستوري، علما أن ذلك الوقت الضائع شكل فرصة لدى الملك الحسن الثاني لتغيير ميزان القوى لصالحه، بحيث أصبح المالك الفعلي والوحيد لسلطة تأسيس الدستور.

ويضيف الباحث قائلا بأن ممارسة الحياة الدستورية بالمغرب لم تكن إلا في فترات متقطعة، فالعمل بأول دستور، الذي جاء متأخرا لم يدم سوى 18 شهرا و19 يوما ، لتتوقف بعد ذلك كل مظاهر الحياة الدستورية بفرض حالة الاستثناء، التي دامت 5 سنوات، وحتى بعد وضع دستور 1970 فإنه سرعان ما عادت البلاد إلى حالة الاستثناء دون أن يعلن رسميا عن ذلك ، ليتم وضع دستور جديد سنة 1972 إلا أن العمل به لم ينطلق فعليا إلا سنة 1977 .

ويسجل أيضا أن لحظات التعديل الدستوري أسهمت بشكل واضح في إضعاف الأحزاب السياسية بالمغرب، فمن جهة تصدعت بعض الأحزاب والتحالفات السياسية بسبب الموقف من الدستور . ومن جهة ثانية، عرفت الأحزاب السياسية ضبطا دستوريا من مراجعة دستورية إلى أخرى .

ولذلك نجد الوثيقة السياسية تعتبر أن احتكار السلطة التأسيسية أحد الأعطاب البنيوية الأساسية التي أسهمت وتسهم في انغلاق النسق السياسي المغربي، وتحكم على مساره بالاختلال، وعلى نظام الحكم فيه بالمركزة والسلطوية، ثم تقترح مدخل السلطة التأسيسية الجماعية لصياغة دستور ديمقراطي.

كما تقترح الوثيقة أن تكون هذه السلطة التأسيسية غير سيادية، بمعنى أن تكون الكلمة الأخيرة للشعب باعتباره صاحب المبادرة الدستورية، حيث يتم انتخاب جمعية تأسيسية تضع مشروع الدستور لكنه لا يصبح نافذا إلا بعد عرضه على الاستفتاء الشعبي ليكتسب مشروعية القوة القانونية بالتصديق الشعبي.

ولعل من المقترحات الجريئة في الوثيقة والجديرة بالدراسة والتأمل أن يتم تقديم مترشحين في لوائح انتخابية مشتركة، لتجاوز منطق الغلبة والاحتكار، ولطمأنة الفرقاء والشركاء من خلال الية العمل المشترك.

وصفوة القول، فإن الميثاق السياسي والدستور التوافقي، يعتبران من أهم العناصر التي جاءت بهما الوثيقة السياسية لجماعة العدل والاحسان كمداخل استراتيجية عملية في سيرورة البناء الديمقراطي، إذ تعتبر الوثيقة أن الحوار الوطني مقدمة أساسية لترسيم ميثاق سياسي تأسيسي يتضمن المبادئ الفوق الدستورية التي تعكس الرؤية الاستراتيجية للمغاربة، ويشكل إطارا مرجعيا من خلاله يتوافق الجميع على خطوات البناء ومنها خطوة الدستور الديمقراطي التوافقي الذي لن يتم إلا بالتقاء الارادة الشعبية بتطلعات النخبة السياسية من لأجل مغرب العدل والكرامة والحرية.

علي المغراوي*

*أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية