story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
سياسة |

المهدي بن بركة.. حضور يتحدى 6 عقود من غياب مصيره المجهول

ص ص

تنقضي اليوم 60 عاماً عن اختفاء المعارض المغربي البارز المهدي بن بركة، الذي اختطف في فرنسا يوم 29 أكتوبر 1965، ومن ثم اغتياله في قضية بقيت لغزاً يؤرق أقاربه والباحثين عن الحقيقة في مواجهة أوساط سياسية وأمنية تلزم التكتم، في ظل اتهامات تفيد بتورط كل من المغرب وفرنسا وإسرائيل في هذه القضية اللغز.

من أستاذ رياضيات ووطني مناهض للاستعمار إلى أبرز معارضي الملك الحسن الثاني، ثم ضحية لـ”جريمة دولة” عابرة للقارات، لا تزال خيوطها المقطوعة تُروى في محاولات مستمرة لكشف الحقيقة الكاملة لمصيره.

تستعرض هذه النافذة مسار زعيم لم يكن مجرد سياسي مغربي، بل كان واحداً من قادة التحرر والثورة في العالم الثالث، وشخصية محورية في تأسيس حركة “مؤتمر القارات الثلاث” (التريكونتيننتال) لمناهضة الإمبريالية.

النشأة والتعليم

في يناير 1920، وُلد المهدي وسط عائلة من الطبقة الوسطى في حي سيدي فطاح بالرباط، في وقت كانت ترزح فيه البلاد تحت نير الاحتلال الفرنسي. كان من القلائل جداً من الأطفال المغاربة غير المنتمين للبورجوازية الاستعمارية الذين حصلوا على تعليم جيد.

درس في ثانوية مولاي يوسف بالرباط، بين أبناء المستعمرين وأعيان المدينة، وظل يعمل -إلى جانب الدراسة- محاسباً بسيطاً في أسواق الجملة لمساعدة أسرته، كما اشتهر بتفوقه الدراسي. حصل على شهادته الأولى عام 1938 بمرتبة الشرف العالية في وقت لم يكن ينتج فيه المغرب سوى حوالي 20 خريجاً أو نحو ذلك من برامج البكالوريا للتعليم الثانوي سنوياً. وبعدها بفترة قصيرة حصل على دبلوم في شعبة الدراسات الإسلامية.

لفت أداؤه الأكاديمي المتميز انتباه المقيم العام الفرنسي شارل نوغيس، الذي أرسله مع طلبة متميزين آخرين في رحلة إلى باريس. ولم تكد تمر سنة واحدة حتى نجح في تحقيق حلمه بدراسة الرياضيات، والتحق بثانوية ليوطي في الدار البيضاء، حيث حصل على شهادة البكالوريا عام 1939.

كان يرغب بن بركة في متابعة دراسته في فرنسا، غير أن اندلاع الحرب العالمية الثانية دفعه لتغيير خططه، وتوجه سنة 1940 إلى الجزائر -وهي وقتئذ تحت الاحتلال الفرنسي-، وحصل هناك على شهادة الإجازة (البكالوريوس) في الرياضيات ودرجة في الفيزياء، ليصبح بذلك أول مغربي يحقق هذا الإنجاز.

مقاوم للاستعمار

عاد بن بركة إلى المغرب عام 1942. بعمر 22 عاماً، وبصفته أول خريج مسلم مغربي في الرياضيات من مدرسة فرنسية رسمية، أصبح أستاذاً في المدرسة المولوية، حيث كان ولي العهد الأمير مولاي الحسن (الملك الحسن الثاني) أحد طلابه.

وفي عمر 24 سنة، أصبح المهدي بن بركة أحد أبرز قادة المقاومة التوّاقين إلى طرد الاستعمار، وبناء الدولة الوطنية، وأقلق نشاطُه المتواصل الفرنسيين، وقاده إلى قبضتهم مرات عدة، منها سجنه لأكثر من عام ونفيه إلى الصحراء بعد مشاركته في تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير سنة 1944، إذ كان أصغر الموقعين عليها.

شارك بن بركة – إلى جانب أحمد بلافريج وآخرين – في تأسيس جريدة العَلَم عام 1946، كما كان بحسب الأكاديمي الاتحادي محمد الحبابي هو من أعد خطاب طنجة الذي ألقاه السلطان محمد الخامس في 10 أبريل 1947.

في عام 1951، وُضع المهدي بن بركة رهن الإقامة الجبرية، بعدما وصفه المقيم العام الفرنسي الجنرال ألفونس جوان بـ”العدو الأول لفرنسا في المغرب”. قبل أن يكون من أبرز المشاركين في المفاوضات التي أدت إلى عودة محمد الخامس من المنفى في 1955.

معارض ومناضل أممي

نال المغرب الاستقلال رسمياً، عام 1956، بعد 12 عاماً من تقديم وثيقة 11 يناير التي كان من بين الموقعين عليها المهدي بن بركة. وتبوّأ الأخير منزلة خاصة داخل هرم السلطة المغربية، إذ عُيّن رئيساً للمجلس الوطني الاستشاري (النواة الأولى للبرلمان المغربي، لكنه لم يكن يملك السلطة التشريعية).

وبعد ثلاث سنوات أعلن بن بركة مع ثلة من رفاقه الانشقاق عن حزب الاستقلال، وتأسيس حزب جديد سمّاه “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، ليبدأ مسيرة معارضة الملك الحسن الثاني والمنفى، ويتحول إلى أيقونة لحركات التحرر والعالم الثالث عبر العالم، بوصفه سكرتيراً أشرف على تنظيم يُعرف بـ”مؤتمر القارات الثلاث” (Tricontinental).

أصبح بن بركة بعد نفيه من المغرب عام 1963 -إثر رفضه حرب الرمال بين المغرب والجزائر- “مندوباً متجولاً للثورة” كما وصفه المؤرخ جان لاكوتور. فغادر في البداية إلى الجزائر العاصمة، حيث التقى تشي غيفارا، وأميلكار كابرال، ومالكولم إكس.

ومن هناك، ذهب إلى القاهرة، وروما، وجنيف، وهافانا، محاولاً توحيد الحركات الثورية للعالم الثالث من أجل مؤتمر القارات الثلاث، الذي كان من المقرر عقده في يناير 1966 في العاصمة الكوبية هافانا، وهو ما أثار غضب الولايات المتحدة وفرنسا.

مسار غني من النضال داخل المغرب وخارجه، دفعه إلى عشرات البلدان المستقلة حديثاً ذات التوجه اليساري الاشتراكي، إلى أن انتهت سيرته الثرية بمأساة اختطافه واغتياله في 29 أكتوبر 1965 بفرنسا، ولم يحضر المؤتمر الذي كان يعد له شخصياً، وتأسست خلاله منظمة التضامن مع شعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.

الاختفاء ولغز الجثة

في مثل صباح هذا اليوم، كان بن بركة بالقرب من مقهى ليب وسط العاصمة الفرنسية باريس، على موعد مع مخرج لإنجاز وثائقي عن حركات التحرر العالمية بعنوان “كفى BASTA”. وعندما خرج من المقهى قابله شرطيان، طلبا منه الصعود معهما إلى السيارة، وهو ما فعله بعد أن تأكد من هويتهما المهنية.

يحكي جورج فيغون أحد المشاركين في الجريمة، في مقالة كتبها قبل انتحاره بجريدة “إكسبريس” الفرنسية عام 1965، أن الشرطيين نقلاه إلى فيلا بضواحي العاصمة باريس، حيث أخبراه أنه سيلتقي بمسؤول فرنسي كبير.

ويزيد موضحاً أن بن بركة ساورته شكوك في البداية، لكن رجال المخابرات السرية كانوا حريصين على طمأنته بأن الأمر يتعلق فعلاً بمسؤول كبير يريد لقاءه بعيداً عن وسائل الإعلام.

بالموازاة مع ذلك، كانت الاستعدادات جارية على قدم وساق لاستقبال الجنرالين المغربيين محمد أوفقير ورفيقه أحمد الدليمي اللذين سيحلان بالفيلا صباح اليوم الموالي.

منذ ذلك الوقت لا توجد تفاصيل حول ما جرى بالضبط، وأين تم إخفاء الجثة، وهل هُرّبت إلى المغرب، أم دُفنت في فرنسا، إذ تضاربت الروايات بشأن ذلك، ولم يظهر أي دليل يرجح إحداها.

زعم أحمد بوخاري، وهو عضو سابق في المخابرات المغربية، في عام 2001 أن بن بركة تُوفي أثناء الاستجواب في فيلا جنوب باريس. وقال إن جثته نُقلت بعد ذلك إلى المغرب وتمت إذابتها في حوض من الأسيد، أُنشئ بناء على تعليمات من عميل وكالة المخابرات الأمريكية الكولونيل مارتن.

ومن جانبه، يشير المعتقل السياسي السابق علي بوريكات، في كتابه “في حديقة الملك المغربي السرية” إلى أنه التقى بعميل مغربي سابق في سجن بالقرب من الرباط بين عامي 1973 و 1974، وروى الرجل له كيف قام هو وبعض زملائه، بقيادة الكولونيل أوفقير وأحمد الدليمي، بقتل بن بركة في باريس، ودفنوا الجثة خارج باريس، بينما أحضر الجنرال أوفقير رأسه إلى المغرب في حقيبة سفر.

في عام 2001، تم الكشف عن بعض الوثائق الفرنسية السرية حول القضية، مما أثار ضجة سياسية. وفي عام 2004 وافقت وزيرة الدفاع ميشيل أليو ماريي على اتباع توصيات لجنة الدفاع الوطني والإفراج عن 73 وثيقة إضافية سرية حول القضية.

ومع ذلك، أعرب البشير نجل المهدي بن بركة عن غضبه مما وصفه بـ “إفراج زائف عن الملفات”، مُصراً على أنه “تم حجب معلومات كان من الممكن أن تدين أجهزة الاستخبارات الفرنسية (SDECE)، وربما وكالة المخابرات المركزية وجهاز الموساد، وصولاً إلى مسؤولين مغاربة كبار”، حسبما نقلته صحيفة “لو فيغارو” الفرنسية.

يُذكر أنه في 2009، أصدر الإنتربول مذكرات توقيف بناء على قرارات قاضٍ فرنسي بحق أربع شخصيات مغربية، قبل أن تطلب باريس سريعاً تعليق المذكرات الأربع بحجة طلب “إيضاحات إضافية”، وهو ما عدّه القاضي الذي كان يتابع الملف، “عرقلة تهدف إلى حماية مصالح سياسية”.

وقبل ذلك بثلاث سنوات، نظرت الهيئة القضائية في فرنسا التي تتابع ملف بن بركة في ادّعاءات نشرتها صحيفة “إكسبريس” الفرنسية، تتهم المعارض اليساري بـ”التخابر”، لصالح المخابرات التشيكوسلوفاكية.

وخلصت الهيئة القضائية بعد تدقيق حوالي 1,500 وثيقة من الأرشيف التشيكوسلوفاكي، إلى عدم اقتناعها بأن المعارض المغربي كان مجنّداً لصالح المخابرات التشيكوسلوفاكية، وعدم وجود أي مستند يحمل آثار بن بركة، ما يجعل الادّعاءات “غير جدّية” في نظرها.

“نهاية الأسرار”.. هل يُحل اللغز؟

وبعد 6 عقود من اختفائه، يصدر يوم الأربعاء 29 أكتوبر 2025، كتاب بعنوان “قضية بن بركة.. نهاية الأسرار” (الصادر عن دار غراسي)، للصحافيين الاستقصائيين ستيفن سميث ورونين بيرغمان، بهدف الكشف عن أسرار ظلت حبيسة الأرشيفات حول “أكبر فضيحة هزت الجمهورية الخامسة”.

وفي تقديمها للكتاب، قالت دار غراسي: “بينما لم نعد نجرؤ على الأمل في فك أسرار جريمة الدولة هذه، تسمح وثائق غير منشورة بالكشف عن تفاصيل وخفايا قضية بن بركة”، مشيرة إلى أنها عبارة عن “قصة إثارة جيوسياسية، وتاريخ لأجهزة مخابرات في خضم الحرب الباردة، وعملاء سريين ومجرمين فرنسيين، وبيوت دعارة وخزائن كان من المقرر أن يبقى فيها ما لا يمكن البوح به مغلقًا”.

وطرحت دار النشر، عبر موقعها الرسمي، أسئلة من قبيل “هل أصدر الحسن الثاني الأمر باختطاف بن بركة؟ هل كانت وفاته عرضية أم مخططًا لها؟ إذا كانت الجريمة مع سبق الإصرار، فمن نفذها وكيف؟ وماذا حدث للجثة؟”، لافتة إلى أنه في نهاية التحقيق الذي وصفته بـ “الاستثنائي”، سيكون لكل سؤال من هذه الأسئلة جواب مدعوم بالأدلة.

يقوم ستيفن سميث الصحافي في صحيفة “لوموند”، وزميله رونين بيرغمان، الصحافي في صحيفة “نيويورك تايمز” والمتخصص في قضايا الاستخبارات، عبر حوالي 500 صفحة من “تحقيق طويل الأمد وموثق بدقة”، بكشف “أسرار ظلت حبيسة الأرشيفات السرية لعقود”.

من جانبها، اعتبرت صحيفة “لوموند” أن كتاب “قضية بن بركة: نهاية الأسرار”، هو “الأكثر شمولاً” في هذا الملف، مشيرة إلى أن المؤلفين يقدمان تفاصيل حول الدور الذي لعبه الموساد الإسرائيلي “منذ البداية حتى النهاية” في جريمة اغتيال المهدي بن بركة.

وأوضحت الصحيفة الفرنسية أن الصحافيين اطلعا على العديد من الوثائق السرية التي “تشهد على مدى اتساع الروابط التي نشأت آنذاك بين الموساد والجهاز الأمني المغربي، بل وحتى مع الملك الحسن الثاني شخصياً”.

وفي هذا السياق، اقتبست صحيفة “باري ماتش” في تناولها للكتاب الجديد قول المؤلفين: “قدم المغاربة تسجيلات القمة العربية للإسرائيليين، وباليد الأخرى طلبوا منهم رأس بن بركة”، في إشارة إلى مؤتمر القمة العربي الثالث الذي عقد في شتنبر 1965 بالدار البيضاء.

وأشارت الصحيفة إلى أن الكتاب يوثق “لجريمة دولة ارتكبها المغرب (..)، وسهلتها إسرائيل من خلال ‘عملية إيتِرْنَا’ (Eterna)، وكانت فرنسا شريكة فيها”، موضحة أن “الشرطة الديغولية” كانت على علم باختطاف بن بركة على أراضيها، بدءاً من العميل السري بيير ليمارشاند، مروراً بمدير شرطة باريس موريس بابون ووزير الداخلية روجيه فري، وصولاً إلى رئيس الوزراء والرئيس المستقبلي جورج بومبيدو.

وكان الملك الراحل الحسن الثاني قد نفى، في كتابه “ذاكرة ملك” (حوار أجراه معه الصحافي الفرنسي إريك لوران سنة 1993)، أي علاقة له بالجريمة، قائلاً: “أنا مستعد في كل وقت لأقسم بالله أني وُضِعت أمام الأمر الواقع، في حادث موت بن بركة، ولم تكن لي يد فيه سواء بإصدار الأوامر لتنفيذها أو غض النظر عنها”.

وشدد الحسن الثاني على أنه “بريء تماماً من اختفاء المهدي”، مضيفاً: “كيف يمكن أن يكون لي ضلع في موت إنسان بقي على الصعيد الشخصي قريباً مني ومرتبطاً بي رغم الاختلاف السياسي”، وأشار إلى أن بن بركة كان “مرشداً يعود له الفضل في إذكاء شعلة الحماسة في نفسي من أجل الكفاح الوطني”.

وتحدث الملك الراحل في الكتاب ذاته عن علاقته الوطيدة بالمهدي بن بركة، وأفكاره، وصولاً إلى حدث الاختطاف، الذي قال إنه نزل عليه كالصاعقة فور علمه بما حصل عن طريق الصحافة.

ومنذ اختطافه أمام مقهى ليب في 29 أكتوبر 1965، ظل ملف بن بركة لغزاً معقداً يربط بين أجهزة الأمن المغربية وشبكات الجريمة والتواطؤ الفرنسي. ويسعى كتاب “قضية بن بركة.. نهاية الأسرار”، الذي يمتد على 576 صفحة، إلى تقديم إعادة بناء شاملة للقضية، بإضافة تفاصيل جديدة مستندة إلى أرشيفات سرية، وفقاً للمؤلفين.

ونشرت مقتطفات من الكتاب تبرز التنسيق الوثيق بين العملاء الإسرائيليين والمسؤولين المغاربة في عملية اغتيال المهدي بن بركة، الشخصية البارزة في العالم الثالث، وتعرض تفاصيل دقيقة حول اللوجستيات المتعلقة بالتخلص من جثته من بينها مجارف ومصباح، ومفك براغي، وخمسة عشر عبوة من هيدروكسيد الصوديوم، ثم وضعها في مخبأ مستأجر في سان كلو، كان قد خصص كمخبأ آمن لعناصر وحدة الأمن المغربية “كاب 1”.