الملك يتحدث من القلب: شكرٌ للأمة ورسالةٌ إلى الجوار
الخطاب الملكي ليوم 31 أكتوبر2025 يستحق عن جدارة وصف الخطاب التاريخي، ليس فقط لأنه جاء بعد قرار أممي انتصر بوضوح للمقترح المغربي للحكم الذاتي، بل لأنه أعاد صياغة معنى الانتصار الوطني في لغة تجمع بين الإيمان والعقلانية، بين الذاكرة والمستقبل.
فمنذ افتتاحه بالآية الكريمة «إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا»، بدا واضحًا أن الملك محمد السادس أراد أن يمنح لهذا الحدث بعدًا يتجاوز السياسة إلى مستوى الرمزية الدينية والتاريخية، فاستعار من روح صلح الحديبية دلالة الفتح السلمي، ليقول للمغاربة والعالم إن النصر لا يكون دائمًا بحد السيف، بل بحكمة الصبر ورجاحة الموقف وثبات المبدأ.
إنها لحظة فتح حقيقي، لا بالمعنى العسكري، بل بالمعنى السيادي والمعنوي، فتح يمجّد الصبر الطويل أكثر مما يحتفي باللحظة العابرة.
في هذا الخطاب التاريخي، لم يتحدث الملك بلسان الدولة وحدها، بل بلسان الأمة جمعاء. كانت نبرته أقرب إلى نبرة مواطن بين أبناء وطنه، يشاركهم الفخر والتأثر والامتنان.
فقد خصّ بالتحية كل من ساهم في هذا المسار الممتد على مدى نصف قرن: من أبناء الشهداء الذين كتبوا تاريخ الصحراء بدمائهم، إلى أفراد القوات المسلحة الملكية وقوات الأمن الذين حملوا عبء الدفاع عن السيادة في الميدان.
ان الخطاب بهذه اللمسة الوجدانية تعبيرًا عن وحدة المغاربة حول قضيتهم الأولى، وعن شعور جماعي بالانتصار الذي تحقق بعرق الجميع لا بقرار النخبة وحدها.
ومن بين ما يجعل هذا الخطاب استثنائيًا، استعمال الملك لعبارة “صديقي الرئيس دونالد ترامب” وهو يشكره على دوره التاريخي في الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على صحرائه. عبارة نادرة في المعجم الملكي، لكنها محمّلة بدلالات الوفاء والاعتراف بالجميل، وتكشف عن وجه إنساني للدبلوماسية المغربية يقوم على الثقة والصداقة الحقيقية.
بهذا التقدير، يربط الملك بذكاء بين محطة 2020 وقرار 2025، في استمرارية تؤكد أن الدبلوماسية المغربية لا تتحرك بردود الأفعال، بل برؤية متكاملة وصبر استراتيجي.
لكن الطابع التاريخي للخطاب لا يقتصر على رمزيته أو لغته، بل في جرأته السياسية حين وجّه الملك مباشرة دعوة صريحة إلى الرئيس الجزائري للحوار، معلنًا أن ما تحقق ليس نصرًا على أحد بل “حل لا غالب فيه ولا مغلوب”. إنها لحظة نادرة في السياسة الإقليمية، حين يمدّ المنتصر يده لا ليُذلّ خصمه بل ليصالحه.
بهذا السلوك، يجسد الملك ثقافة ملوك المغرب في السلم والصفح، ويحوّل الانتصار من حدث وطني إلى فرصة مغاربية لبناء مستقبل مشترك. إنه جوهر النبل السياسي الذي لا يقاس بعدد المكاسب، بل بنوعية الرسائل التي يبعثها للعالم.
ولم يفت الخطاب أن يبعث برسائل إنسانية بالغة العمق حين أكد الملك أن كل من سيعود من مخيمات تندوف سيعامل كمواطن مغربي كامل الحقوق. هذه العبارة وحدها تكفي لتخليد الخطاب في سجل اللحظات الإنسانية الكبرى في تاريخ القضية، لأنها تنقل النقاش من منطق العداء إلى منطق الانتماء، وتعيد للوطن معناه كبيت واسع يتسع للجميع.
كما شكر الملك الدول الصديقة التي ساهمت في هذا الإنجاز، مؤكدًا أن هذا النجاح ثمرة تعبئة جماعية شاركت فيها كل مكونات الدبلوماسية المغربية، الرسمية والبرلمانية والحزبية، في إشارة إلى أن وحدة الموقف الوطني كانت دائمًا سر القوة المغربية.
ثم اختتم الخطاب بتحديد معالم المرحلة المقبلة عبر مبدإين أساسيين: لا مساس بالسيادة الوطنية تحت أي ذريعة، والتزام المغرب بتقديم مخطط تفصيلي للحكم الذاتي كحل سياسي نهائي ينسجم مع الشرعية الدولية ويجسد الرؤية المغربية الواقعية.
بهذا المعنى، لم يكن خطاب 31 أكتوبر مجرد تعليق على قرار أممي، بل حدثًا في ذاته، يوازي القرار من حيث الأثر والرمزية. إنه خطاب سيُدرّس مستقبلًا كمحطة فاصلة في الدبلوماسية المغربية الحديثة، لأنه جمع بين القوة الهادئة والنبالة، بين النصر والسياسة، بين الواقعية والرقي الأخلاقي.
نعم، إنه خطاب تاريخي بكل المقاييس، لأنه أعلن أن المغرب لا ينتصر ليغلب أحدًا، بل ينتصر لمعنى السيادة في أبهى صورها: سيادة تجمع بين العدل والكرامة والسلام.