الملك وجيل Z

اختارت حركة جيل “Z” أن توقف خرجاتها الاحتجاجية خلال يومي الثلاثاء والأربعاء، على أن تستأنفها يوم الخميس، أي عشية الخطاب الملكي السنوي المنتظر بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية، في ما بدا وكأنه إيماءة رمزية ذات دلالة سياسية موجهة إلى المؤسسة الملكية نفسها، مفادها أن الشارع يترقب الخطاب الملكي، ويتطلع إلى ما يمكن أن يتضمنه من إشارات أو توجيهات تخص المرحلة المقبلة.
في السياق ذاته، وجه الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، عبد الإله بنكيران، رسالة إلى الحركة يدعوها فيها إلى توقيف احتجاجاتها في انتظار الخطاب الملكي. وبالموازاة مع ذلك، اختار عدد من النشطاء الحقوقيين والصحافيين والجامعيين توجيه رسالة إلى الملك يطالبونه فيها بـ”التحرك في العمق”، في خطوة تحمل بدورها حمولة رمزية مشابهة.
كل هذه المبادرات، وإن كانت تعكس وعيا سياسيا بأهمية ووزن المؤسسة الملكية في النظام السياسي المغربي، وإدراكا عاما بأن الملك يظل الفاعل الأهم في اللحظات العادية كما في لحظات التوتر أو الأزمات، فإنها تثير بعض الملاحظات الجوهرية التي يمكن تلخيصها في ما يلي:
أولا، إذا كان الملك هو المخاطب الأول في كل أزمة سياسية أو اجتماعية، ألا يعكس ذلك نوعا من المفارقة في بنية الوعي السياسي الجماعي بالمغرب؟ فالمواطنون، بمن فيهم الشباب المحتجون اليوم، يدركون أن القرار الحاسم يوجد في القصر، لكنهم في الوقت نفسه يطالبون بإسقاط الحكومة أو محاسبتها. هذا التناقض يعكس واقعا مركبا: حكومة محدودة الصلاحيات تتحمل الانتقاد الشعبي، وملكية تنفيذية قوية تبقى بمنأى عن المساءلة لأنها تُتَمَثَّل كرمز للاستقرار ولاستمرارية الدولة. لذلك، حين يحتج الشارع، فإنه يفعل ذلك داخل “الهامش المسموح”، دون المساس بشرعية الملك، بل أحيانا بدعوى “مساعدته” على تصحيح أخطاء من حوله وفقا لمنطق “الملك طيب، الطبقة السياسية سيئة”، الذي تحدثت عنه الباحثة مونيا بناني الشرايبي.
ثانيا، إن اختيار الملكية كعنوان للضغط والانتظار يعكس وعيا راسخا بأن الشرعية السياسية العليا ما تزال في يدها، وأن الكلام الملكي قادر على تغيير المزاج العام أو توجيه المرحلة السياسية. وهنا تكمن قوة المؤسسة الملكية وضعفها في آن واحد: قوتها لأنها تحظى بثقة الشارع، وضعفها لأنها تتحمل وحدها عبء الانتظارات وتكلفة الإصلاح. فحين ينتظر الجميع خطاب الملك ليعرفوا إلى أين تتجه البلاد، فإن ذلك يعني أن الحياة السياسية لم تتحرر بعد من مركزية القرار الملكي، وأن “الديمقراطية المغربية” ما زالت تراوح بين محدودية ورمزية المؤسسات المنتخبة وقوة سلطة غير منتخبة تهيمن على القرار وتحتكر المبادرة في المجالات الحيوية والاستراتيجية.
ثالثا، يعكس هذا السلوك الجماعي في توجيه الأنظار نحو الملك أيضا طبيعة الوعي السياسي الذي تشكل تاريخيا في ظل نظام يقوم على شخصنة السلطة أكثر مما يقوم على مأسستها. فالثقة قد لا تمنح بالضرورة للمؤسسة بقدر ما تمنح للشخص الذي يجسدها، والانتظارات لا تتجه نحو الآليات الدستورية بقدر ما تعلق على تدخل فوقي يصلح ما أفسدته السياسة. وهكذا تتحول الملكية، من حيث تدري أو لا تدري، إلى مرجعية شمولية في المعنى الرمزي والسياسي، أي إلى جهة ينتظر منها أن تحدد الاتجاه وتصوب الانحرافات وتمنح الشرعية أو تسحبها.
بهذا المعنى، يمكن القول إن الحركات الاحتجاجية، حتى حين لا تصرح بذلك، تعيد إنتاج منطق “الملاذ الأخير”، حيث لا يطلب من الدولة باعتبارها منظومة متكاملة أن تستجيب، بل من الملك بصفته الضامن الأعلى. وهو منطق يضعف فكرة المواطنة باعتبارها علاقة مباشرة بين الفرد والدولة. فبدل أن تخلق الأزمات لحظة مساءلة للمؤسسات المنتخبة، تتحول إلى لحظة توسل إصلاحي للسلطة العليا.
رابعا، لا يمكن فهم هذا الارتباط العاطفي والسياسي بالملكية خارج تاريخ طويل من التفاعل بين الشرعية الدينية والشرعية السياسية في المغرب، حيث يختلط مفهوم “أمير المؤمنين” بمفهوم “رئيس الدولة”، وحيث تتداخل الرمزية الدينية مع المرجعية الدستورية في تشكيل صورة الملك. فحين يتوجه المواطنون إلى الملك بالنداء، يبدو أنهم لا يخاطبونه فقط كفاعل سياسي، بل كـ”مرجع أخلاقي” يعول عليه لتصحيح الانحراف واستعادة التوازن. وهذا ما يمنح الخطاب الملكي بعدا يتجاوز السياسة بالمعنى التقني إلى ما يشبه الطقس الوطني الجامع، الذي ينتظر منه أن يطمئن ويؤطر ويوجه. لكن في المقابل، فإن استمرار هذا النمط من العلاقة يضعف بالضرورة تطور الثقافة الديمقراطية، لأنه يبقي على التبعية الرمزية للمؤسسة الملكية، ويحول دون ترسيخ مبدأ المسؤولية والمساءلة داخل المؤسسات المنتخبة. فحين يوجه كل اللوم إلى الحكومة، وينتظر الحل من الملك، تصبح الديمقراطية مجرد واجهة شكلية، وتبقى العلاقة الرأسية بالسلطة هي المهيمنة على الفعل السياسي. البلدان الغربية حالت هذه المشكلة عن طريق “الملكية الدستورية” أو “الملكية البرلمانية”، التي تجعل من الملك شاهدا على الحياة السياسة دون أن يكون متدخلا فيها. يمارس سلطاته باسم الدستور ووفق ما يحدده القانون، فيعطي التوجيهات العامة أو الرمزية التي تعبر عن روح الدولة وتوجهاتها الكبرى، دون أن يتحول ذلك إلى تدخل مباشر في العمل التنفيذي أو التشريعي.
خامسا، يفترض رهان الدولة الحديثة انتقالا تدريجيا من منطق الشخص إلى منطق المؤسسة، ومن “خطاب الملك” إلى “سياسات الدولة”، أي من لحظة رمزية آنية إلى سيرورة مؤسساتية مستمرة. فالقوة السياسية للملك يمكن أن تكون رافعة حين تستخدم لتسريع الإصلاح، لكنها قد تتحول إلى عبء حين تصبح بديلا عن الفعل المؤسساتي. ومن هنا، فإن بناء توازن جديد بين الملكية والمؤسسات المنتخبة يقتضي تحرير المجال السياسي من الانتظارية المزمنة التي تجعل الخطاب الملكي وحده هو الذي يمنح المعنى ويحدد الاتجاه.