الملك أنقذَنا

تابعت كما تابع الجميع، وبشكل يكاد يكون غير مسبوق على الإطلاق، الخطاب الملكي الخاص بافتتاح السنة التشريعية الأخيرة من الولاية الحالية لمجلس النواب، ولاحظت كما لاحظ الجميع تعبيرات تنمّ عن الإحباط المرتبط بحجم الانتظارات التي خلقتها دينامية الشارع وزخم التواصل اللذان ميّزا الأيام القليلة الماضية.
وأنا بهذا العنوان الذي أعرف أنه سيفاجئ الكثيرين، لا أسعى إلى تبديد هذا الشعور السلبي الذي انتاب الكثيرين، بقدر ما أتقاسم محاولة في الفهم والتفسير والاستيعاب، وهو ما يكاد يغيب عن نقاشاتنا، حتى أصبحنا أننا لا نكتب أو نعبّر إلا لكي ننتج موقفا أو نُصدر رد فعل. وهنا لابد من التمييز بوضوح بين الموقف ومحاولة القراءة والتحليل.
لهذا وبصرف النظر عما كنا نتمناه أو نرجو وقوعه، ورغم أن سيناريو التفاعل الملكي الصريح والمباشر مع دينامية الشارع كان واردا؛ فإن حدوثه بالشكل الذي يذهب إلى أبعد مدى طالب به الشارع في الأيام القلية الماضية، أي وضع حدّ لوجود الحكومة الحالية، عبر دفعها للاستقالة أو حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكّرة؛ كان سيشفي غليل الغاضبين والمتضررّين من هذه الحكومة، وما أكثرهم، بل لا أعتقد أن هناك من كان سيتأسف لرحيلها، لكنه كان سيعني أشياء سلبية أيضا، وهو ما جاء الخطاب الملكي لينقذنا منه.
فما هي السلبيات التي كان سينطوي عليها أي تحرّك ملكي جذري بقلب الطاولة على الحكومة؟
• أولا، كان مثل هذا الخيار سيعني لنا نحن الذين نراقب ونلاحظ من خارج العلبة السوداء للدولة، أن هذه الأخيرة تعاني ضعفا داخليا، وأن ما تردّد في الشهور الأخيرة من وجود صراع طاحن بين أجنحة السلطة، حقيقي ومؤثر، لأنه وبكل بساطة وموضوعية، زخم الشارع الذي خرج في الأيام القليلة الماضية لا يكفي لتبرير إسقاط الحكومة.
هذه الأخيرة ساقطة أصلا قبل خروج شباب “جيل z”، وبالنسبة إليّ هي نتيجة اختيارات سياسية وتدبيرية خاطئة وما كان ينبغي لها أن تتشكّل أصلا؛ لكن حكمي هذا شيء، وقراءة المعطيات والواقع شيء آخر.
الشباب خرجوا بشكل ملحمي وبطولي وكسروا جدار الصمت وأحيوا الآمال وجدّدوا الدماء في الجسد الوطني، لكن احتجاجهم خفت بسرعة ولم يعبّئ شرائح وفئات اجتماعية أخرى، وبالتالي لم يخلق توازن قوى جديد يسمح بالاقتناع بالرحيل القسري للحكومة؛
• ثانيا، هناك هذا الغياب الواضح والفجّ للبديل الذي يمكن أن يفسّر المبادرة إلى إسقاط الحكومة قبل انتهاء ولايتها. الجسم السياسي والحزبي في شبه غيبوبة، وما تبقّي فيه من “عروق” حية لا يقدّم أية عروض سياسية يمكن البناء عليها لخلق حالة جديدة تحملنا نحو واقع مختلف عن هذا الذي نريد تغييره.
الخريطة السياسية الحالية، ومعها الهندسة الانتخابية القائمة، مهما عدّلنا تفاصيلها، لن تمنحنا سوى وضعا مشابها، إن لم يكن مطابقا لما هو عليه الحال اليوم، وبالتالي فإن إسقاط الحكومة من طرف الملك، وإعادة إنتاج الوضعية السياسية نفسها، كان سيجعلنا في ورطة وتهديد وجودي؛
• ثالثا، علينا أن نتذكّر جيدا أن التفاعل الملكي السابق مع حراك الشارع، والذي جرى عبر خطاب 9 مارس 2011 بعد خدوج احتجاجات 20 فبراير من السنة نفسها؛ كان قد حمل عرضا دستوريا جديدا يستجيب لتطلّعات راسخة وتحمل ما يكفي من إقناع لإعطاء معنى للتفاعل الملكي؛ أما تنظيم انتخابات سابقة لأوانها حينها، فلم يكن سوى نتيجة تلقائية لهذا العرض الدستوري، وبالتالي كان هناك منطق استراتيجي في سلوك الملك.
إذا تم التفاعل مع احتجاج الشارع بمبادرة ملكية لإسقاط الحكومة، وفي الوقت الذي يمكن معه أن نتصوّر اختفاء الأسباب التي حملت الشباب على الاحتجاج اليوم، سنكون مستقبلا في وضعية صعبة تضع الملك والشارع وجها لوجه مع أول تعثّر تدبيري، وسيصبح مطالبا بإقالة الحكومة كلما خرجت مظاهرة ضدها؛
• رابعا، إذا كان رحيل الحكومة الحالية لن يحمل أي أحد على الأسف، بل قد ينتج حالة فرح عارم تجتاح البلاد بالطول والعرض، فإن سقوطها بتدخّل ملكي وليس بإحدى الآليات الدستورية والديمقراطية المتاحة، يضعف مسار تعلّمنا للديمقراطية والتمرّس عليها، ويبعدنا عن روح الملكية البرلمانية، ويحاصرنا أكثر داخل دائرة الملكية التنفيذية.
كيف نعجز كشعب يفترض أن لديه نخب وقوى سياسية ومدنية ونقابية… عن خلق الحالة التي تؤدى إلى نجاح ملتمس رقابة أو إفقاد الحكومة أغلبيتها البرلمانية، كما يتكرر في فرنسا منذ شهور؛ ونلقي العبء بالكامل فوق كاهل الملك؟
• ثم لابدّ من استحضار البعد الدولي. الحكومات والأنظمة لا تقوم وتستقر بالعوامل الداخلية فقط، بل تكون خاضعة أيضا لعوامل وحسابات خارجية، لا أحد يمكنه أن يزعم الإلمام بحجمها ومداها. وسقوط حكومة قبل انتهاء ولايتها من المؤشرات التي تضعف الدول أمام الخارج، مهما كان ذلك في سياق الاستجابة لمطالب وطموحات شعبية مشروعة.
لهذا، وبالقدر الذي تتمتّع فيه الأصوات التي خاطبت الملك مقدمة مطالب من بينها رحيل الحكومة، بكامل الشرعية والحق في التعبير والوجود؛ فإن الخطاب الملكي لافتتاح السنة التشريعية وإن لم يساير الشعور العام الذي يسود أصلا وتعزّز أكثر في الأيام الأخيرة، فإنه ينطوي على رسائل ينبغي التقاطها، منها أن الهندسة المؤسساتية والدستورية، بقدر ما تضمن الحق في الاحتجاج والتعبير ورفع المطالب، وتلزم المسؤولين بالتفاعل والإنصات، فإنها تلزم الملك بمسؤولية الإمساك بالخيوط الاستراتيجية وحماية الاستقرار في بعده المؤسساتي، ومن ثم وضع المواطن كفرد ثم كمكوّن لجميع أشكال التنظيم السياسي والمدني، أمام مسؤولياته، كي ينخرط ويتعارك ويصارع سلميا ويحضر حيث ينبغي أن يدافع عن مصالحه، لا أن ينسحب ويتفرّج ثم يراسل الملك ليسقط له الحكومة عندما “تصل فيه للعظم”.
في الختام لابدّ من التنبيه، دون أدنى تعسّف أو لي لعنق الحقيقة، إلى أن خطاب الملك تفاعل وبشكل عميق مع احتجاجات الشارع وما صدر عنه من مطالب وانتقادات، وأقرّ بضرورة إعطاء “عناية خاصة” للمناطق الأكثر هشاشة، و”إعادة” النظر في تنمية المناطق الجبلية، والتفعيل “الأمثل والجدي” لآليات التنمية المستدامة للسواحل. وكلّها عبارات تدلّ على التقاط الرسالة والاعتراف بالخلل والالتزام بالتصحيح.
لكل هذا أعتقد أن خطاب الملك لم يتفاعل “عاطفيا” مع احتجاجات الشباب، كما كان يرجو الأستاذ مصطفى اليحياوي، لكنه أنقذنا رغم ذلك من منزلقات قد تغيب عنا خطورتها حاليا، دون أن يعني هذا الخطاب أي قبول بالمساس بالحقوق المضمونة دستوريا، للاحتجاج والتظاهر والاستنكار، وكلّها أدوات للمساهمة الإيجابية والمواطنة في بناء مستقبل أفضل، وهو ما يمرّ حتما عبر الاخراط والمشاركة وتغيير ميزان القوة، ولا أعتقد شخصيا أن الملك سيكون عقبة في وجه التطلعات الديمقراطية للمغاربة، شريطة أن يعبّروا عنها ويمارسوها.
ربما نواصل العيش تحت سقف دستور ممنوح، لكن الملك أنقذنا من لحظة نشوة ديمقراطية ممنوحة. أبواب السنة الانتخابية مشرعة أمام جميع الأجيال والفئات والمناطق، فلنقحمها لنصنع فيها مؤسسات لا نضطر في كل مرة إلى مراسلة الملك كي ينقذنا منها، بل يكفي أن نحرّك أحزابنا وهيئاتنا السياسية والمدنية والنقابية لإسقاطها.