المغرب جزيرة.. مطوّقة
“المغرب جزيرة، وعلينا أن نستخرج من ذلك كل النتائج”، هكذا ختم المفكر عبد الله العروي أحد استجواباته التلفزيونية النادرة، ثم أضاف: “قدرنا هو أننا جزيرة ويجب ان نتصرف كسكان جزيرة”. وهذا ما تتكاثف الأحداث والمعطيات في الآونة الأخيرة لتأكيده.
فإذا كان الجنوب مستهدفا بالهجمات اليائسة لمقاتلي جبهة البوليساريو، والشرق مدجّج بالأسلحة التي قرّر حكّام الجزائر تعزيزها في السنة المقبلة بما لا يقل عن 25 مليار دولار، أي نصف ميزانية الدفاع في أوكرانيا التي تقاتل منذ سنتين ضد روسيا، حسب الصديق عبد الله الترابي (…)، ها هو عسكري إسباني متقاعد يكمل “الباهية” ويصدر تصريحات تعيدنا إلى دائرة العدوّ الخارجي الأول لإسبانيا في نظر بعض الأصوات اليمينية المحافظة.
الأدميرال الإسباني المتقاعد حديثا، رودريغيث غارات، أصدر كتابا عنوانه “طبول الحرب”، ووزّع تصريحات واستجوابات على الصحافة، أهم ما فيها، حسب صحيفة القدس العربي، أن المغرب جار مزعج لإسبانيا، ويمارس عليها حربا هجينة، غايته منها أن ينغصّ عليها وجودها في مدينتي سبتة ومليلية…
ثم يعود العسكري الإسباني الذي لا يخفي عداءه تجاه كل ما يأتي من جهة الجنوب، أن المغرب لا يملك القوة العسكرية التي تسمح له بتهديد إسبانيا، وإنه يفعل كل شيء ليعلن مطالبته بالمدينتين المحتلتين دون أن يقدم على اجتياحهما بالدبابات.
العسكري المتقاعد الذي قام بما يمتنع عنه “عتاة” السياسيين والحقوقيين عندنا، أي الكتابة والتأليف والمشاركة في النقاش والتحليل، خلص رغم حديثه غير الودي عن المغرب إلى أن هذا الأخير لا ينوي الهجوم على إسبانيا، مستندا في ذلك على قراءة اختيارات المغرب في التسلّح، حيث يغيب سلاح الغواصات عن الترسانة العسكرية المغربية.
في المقابل، يجزم الأدميرال الإسباني بأن الجزائر هي التهديد الحقيقي بالنسبة للعقيدة العسكرية المغربية، وأن الحرب الأقرب إلى الواقع بالنسبة للمغرب هي تلك التي تدور في الصحراء، بدليل الصواريخ بعيدة المدى التي يقول الخبير الإسباني إن المغرب اقتناها، مستبعدا كليا أن تكون الأراضي الإسبانية هدفا لتلك الصواريخ لكونها مشمولة بحماية حلف شمال الأطلسي.
ورغم اعتباره الجزائر أخطر على الغرب، ولننتبه إلى أن القائد العسكري الإسباني المتقاعد تحدّث بنون الجماعة وباسم هذا الغرب وليس عن إسبانيا فقط، وعزّز رأيه هذا بحيازة جارتنا الشرقية لغواصات قادرة على عرقلة عمل أكبر أسطول عسكري بحري، فإنه عاد ليصف سلاح الغواصات هذا، الذي تحوزه الجزائر، بكونه سلاح الضعفاء، وأن المغرب واجهه باقتناء فرقاطات عسكرية قادرة على مواجهة الغواصات، دون أن يشتت جهوده المركزة على الجبهة البرية.
معطى الغواصات هذا استعمله الخبير الإسباني ليدعي أن الجزائر مسلّحة بشكل أفضل من المغرب، مستبعدا بالتالي فرضية إقدام المغرب على المبادرة بأي حرب ضد جيرانه، سواء إسبانيا أو الجزائر، مستدلا بافتقاد بلادنا لكل من السلاح النووي، والقدرة على التصنيع الذاتي للعتاد الحربي، إلى جانب افتقادها للموارد الطبيعية مثل النفط والغاز…
هذه عيّنة عن طريقة نظر جيراننا إلينا، يسبّبون لنا الأضرار والمشاكل الترابية والسيادية، ثم ينتقلون إلى موقع الضحية ليعتبرونا مصدر تهديد وعدوا خارجيا محتملا.
هذا ما يحصل في الجهات الثلاث: الجنوب والشمال والشرق، والله وحده يعلم كيف كان سيكون حالنا لو كان لنا جار رابع من جهة الغرب.
الحمد لله على نعمة بحر الظلمات.
لا يهمني كثيرا التوقف لتقييم جودة ودقة التصريحات التي خرج بها هذا العسكري الإسباني المتقاعد، إذ يعفينا هو نفسه من عناد ذلك حين يفصح عن عقيدته غير المحايدة، وعدائه المبدئي لكل ما هو عربي وإسلامي، وتبنيه لفكرة صراع الحضارات التي تقطر بها فقرات تصريحاته وحواراته.
لكن يهمني أكثر مدى حصول الوعي لدينا في المغرب، بحقيقة موقعنا الجيوسياسي، وما يحيط بنا من تهديدات وأطماع.
ليست الغاية من ذلك تغذية مشاعر العداء والنفور من المحيط الإقليمي، بل توجيه النقاش العمومي والجهدين النظري والعملي نحو تطوير المناعة الداخلية لمجابهة هذا الكمّ الهائل من التحديات التي ربما لم يسبق لنا كأمة مواجهتاها بهذا الشكل الذي يكاد يطبق علينا.
في عز حرب “الجهاد البحري” وبدايات صعود القوى الأوربية نحو قلب ميزان القوة الذي كان يميل لصالح “الحوض الحضاري الإسلامي” بتعبير الوزير السابق الحبيب الشوباني، كنا نلعب أوراق التناقضات الدولية والإقليمية، فنجمّد احتكاكاتنا البرية مع العثمانيين لنتحالف معهم في البحر، بل وصل تنسيقنا هذا معهم درجة خوض معركة مشتركة تعرف باسم معركة وادي المخازن.
كما كان المجال الصحراوي-الإفريقي في جل فترات التاريخ الحديث بمثابة العمق الاستراتيجي الذي أمدّنا على الدوام بعناصر القوة الاقتصادية والعسكرية لخوض حروب التحرير والسيادة في الواجهات الأخرى.
لكننا اليوم في وضع مختلف تماما، تكاد لا تأتينا فيه من جميع الجهات سوى رسائل التهديد والوعيد. ولا يمكننا أن نوجّه اللوم كلّه للدولة في هذا المصير، وإن كانت مسؤولة في جميع الأحوال، لأن ما بين أيدينا من حقائق تاريخية تثبت أننا قدّمنا الممكن والمستحيل، خاصة لإخوة الشرق والجنوب، لطمأنة النفوس ونزع رواسب الهلع التي خلّفها المستعمرون في محيطنا، من استيقاظ غرائزنا الإمبراطورية.
هناك اليوم عرض جيوسياسي جديد عنوانه الانفتاح على الأطلسي، ونسج خيوط التقارب أكثر مع العالم الأنغلوساكسوني، وهو الخيار الذي يحوز كل عناصر شرعية الطرح والرهان عليه، لكنه سيظل ناقصا دون إيلاء ما يكفي من اهتمام بالجبهة الداخلية، والقيام باختيارات الحسم الضرورية لتحرير الطاقات وتعزيز الإحساس بالانتماء المشترك ووحدة المصير.
بالعودة إلى الحوار التلفزيوني الذي قال فيه العروي عبارته الشهيرة “المغرب جزيرة”، وعندما همّت الصحافية التي كانت تستجوبه بإنهاء المقابلة، أشار إليها بأصبعه ملتمسا تقديم إضافة، ليقول: “جزيرة مطوقة”.
فلنكسر الطوق من الداخل أولا!