المغاربة للبيع!

منذ نهاية الأسبوع الماضي، كنت أرفع رأسي من بين صفحات تحقيق ننجزه حول المغربيات اللواتي يجرّهن الفقر إلى الحقول الإسبانية، لألتقط أنفاسي أمام صفحات تقرير آخر لا يقل قسوة، عبارة عن دراسة علمية دقيقة عن مراكز النداء في المغرب، وما تراكم فيها من مظاهر استعمارية جديدة وأشكال دفاع نقابي مبتكرة.
كنت أعبر من حقل إلى آخر، من بيوت بلاستيكية في “هويلفا” إلى قاعات “فرنسية” في قلب الدار البيضاء والرباط وفاس، فأصطدم بالسؤال نفسه: هل المستعمرون فعلا “سابقون”، أم أننا نقلنا حدود الإمبراطورية إلى داخلنا، وشرعنا نبيع أبناءنا وبناتنا وفق مواصفات الزبون الأجنبي، مرّة بالأجساد المنحنية تحت شمس الأندلس، ومرّة بالهويات المصقولة على مقاس اللهجة الباريسية؟
الاختلاف في المستوى السّطحي كبير: هناك نساء قرويات، أمّيات في الغالب، مثقلات بتداعيات الترمّل أو الطلاق أو بزوجٍ عاطل، يذهبن بعقود موسمية إلى حيث يوزن الجهد بالكيلوغرامات، وتقاس الكرامة بطول ساعاتِ الانحناء.. وهنا شبابٌ حضريون، بشهادات جامعية أو ما يعادلها، يحسنون الفرنسية وربما الإنجليزية، يدخلون فضاء يبدو حديثا وبرّاقا، لكنه يقوم على معادلة واحدة: قابلية قصوى للاستغلال، مقابل دخل يتآكل، وهوية يُطلب منك أن تعلّقها على المشجب عند باب المكتب.
في الحالتين، نحن أمام “تصدير” للقوة العاملة، ليس عبر الموانئ وحدها، بل أيضا عبر الكابلات والأقمار الاصطناعية التي تجعل من الصوت سلعة ومن الابتسامة على الطرف الآخر للشاشة سياسة دولة غير معلنة.
التقرير الذي أُنجز بشراكات محترمة بين أطراف مدنية وبحثية، يصف ببرود المختبر، ثقافة تنظيمية زُرعت مع نشأة القطاع وظلّ يُعاد إنتاجها: أسماء فرنسية تُمنح للموظفين، وحظر صريح أو ضمنيّ لرموز دينية كالحجاب، وتقويمٌ زمني أجنبي يُقصي أعيادنا الوطنية ويربط إيقاع حياتنا بمواقيت الزبون في باريس وليون ومارسيليا، وتدريب على “نطق محايد” يمحو الأثر المغربي في مخارج الحروف، ثم “حفلات تعويض” تُقام لإخماد التوتر وإيهام الناس بأنّ ما يُنتزع في النهار يمكن استعادته ليلا بكأس وصخب.
ليست هذه زلّات إدارة هنا أو هناك؛ بل هندسة انفصال مقصودة: اقتلاع العامل من نسيجه الاجتماعي واللغوي، وإعادة ترصيعه كترس مرن في ماكينة يقال لها ال”الأوفشورينغ”، والتي لا تدمجك بل تستأجر طاقتك.
حين تقترب الدراسة من أرقام القطاع، تفوح رائحة الغموض. ترخيصات لا تُطابق الواقع، ومراكز تعمل في الظلّ، وأعداد موظفين رسمية تُكذّبها التجربة الميدانية، وأجور كانت في مطلع الألفية تعادل رتبة محترمة في الوظيفة العمومية، تقلصت حتى صارت الرواتب الصافية بالكاد تتجاوز عتبة البقاء في المدن الكبرى.
لكنّ الوجهَ الأكثر قتامة يطلّ من غرف موازية داخل القطاع: مراقبو محتوى المنصات الرقمية الذين يسهرون على غربلة ما يرمى على المنصّات من عنف وإباحية وتحريض وقسوة بشرية خام.
هؤلاء يعيشون على تماسّ يومي مع ما لا يحتمله العقل السليم، بلا مواكبة نفسية حقيقية، حتى بلغ الأمر ببعض الإدارات إلى تغيير أمكنة العمل “احترازا من الانتحار”.
وفي حقبة الحجر الصحي، حين تغنّى العالم بـ”مرونة” العمل عن بُعد، اكتشف كثيرون أن المرونة تحوّلت إلى كاميرا في غرفة الجلوس، وإلى أوامر بالبقاء في المقرّات، وشراء أسرّة مؤقتة للنوم داخل “المنصة”. ما الذي تبقّى من الخصوصية حين يصبح بيتك شعبة مراقبة، وحياتك “حالة اتصال” دائمة؟
ما يوجع في كل هذا ليس فقط أنّنا نبيع عملنا بثمن بخس؛ المؤلم أنّنا نبيع معه سرديتنا عن أنفسنا. يصبح المغربي مجرّد “موارد بشرية” محايدة بلا تاريخٍ ولا جغرافيا، ويصبح العيد الوطني مناسبة غير معترف بها لأنّها لا تظهر في رزنامة الزبون، وتصبح أسماءنا حمولة زائدة في مكالمة يجب أن تنتهي في زمن قياسي وبنبرة مسطّحة.
أكتب هذا وأنا أستعيد مروري الشخصي القصير، قبل نحو عشرين عاما، بأحد تلك المراكز. كنت لتوّي خارج سنة أولى في شعبة الحقوق بالفرنسية، دخلت مقابلة وخرجت “مقبولا” في مهمة الاستقبال. أخبروني أن “الإرسال” للمحترفين، ومنحوني اسما فرنسيا وطلبوا مني أن أتدرّب على تقمّص شخصية مواطن يعيش هناك. وشيء ما لم يكن مريحا، فلم أعد.
اليوم أفهم أنّ ما بدا لي نفورا غامضا كان رفضا فطريا لتخلّي الإنسان عن بشرته اللغوية، وعن صوته الداخلي، وعن ذاكرته الصغيرة التي تربط بين الاسم والأمّ والحيّ والمدرسة الأولى.
نجوت من فخٍّ فردي، لكنّ الفخّ الأكبر ظلّ منصوبا لآلاف دخلوا بحثا عن فرصة مؤقتة ثم اكتشفوا أنّ المؤقت في بلد تابع يطول حتى يصبح دائما.
حين أعود إلى نساء حقول الفراولة الإسبانية، أفهم تماما كيف يتجاور فينا نموذجان متناقضان يفضيان إلى المعنى نفسه: هناك من يُستدعى جسدها ليجني التوت، وهناك من يُستدعى صوته ليخفّف غضب زبون في الضاحية الفرنسية.
الأولى تُقاس مردوديتها بعدد الصناديق، والثاني بمدة المكالمات ومؤشر رضا الزبناء… في الحالتين، نحن ندار كعقود خدمات لا كبشر ذوي كرامة.
في الحالتين، تشتغل الدولة كسمسار صامت. تفتخر بالأرقام، وتتغافل عن الثمن الإنساني، وتؤجّل، عاما بعد آخر، بناء اقتصاد منتجٍ يخلق قيمة هنا لا في دفاتر الشركات الأمّ هناك.
ليس مطلوبا أن نغلق مراكز النداء، ولا أن نمنع الناس من السفر والعمل الموسمي. المطلوب أن نكفّ عن بيعهم بصيغٍ تهينهم، وأن ندافع عن تعاقد ينصفهم، وأن نعيد تعريف “الخدمة” بما يعترف بأنّ وراء كلّ صوت حنجرة وبيتا وعيدا واسما أصيلا. ووراء كلّ ظهر ينحني، تاريخ أسرة تنتظر أن تعيش بكرامة لا بصدقات “المشغّل”.
المطلوب قبل ذلك وبعده أن نرى أنفسنا كما نحن: بلدٌ اختار، بوعيٍ أو بدونه، طريق “اقتصاد الوكالة” بدل “اقتصاد المبادرة”، فصار يستورد الزمن والذوق والإيقاع، ويُصدّر أبناءه على هيئة حزم من “الساعات القابلة للفوترة”.
حين فرغت من قراءة التقارير التي استخرجتها ببراعة الزميلة وداد بنمومن من التقرير العلمي حول مراكز النداء، تذكّرت أن كل هذا لم يحدث فجأة. لقد استيقظنا ذات صباحٍ على قرار بسيط يخبرنا أنّنا سنعيش ساعة مختلفة عن شمسنا، لأنّ المصنع هناك يحتاج إلى ذلك.
نسيت، وسط انهماكي في التفاصيل، أنّنا تحوّلنا بالكامل، كبلد، إلى ملحقة لفرنسا من حيث نمط العيش والإنتاج، يوم فُرضت علينا “ساعة رونو”.