المرتضى إعمراشا يكتب: الدولة المقاصدية.. بين روح الدين ووظيفة الدولة
مدخل: الدين والدولة في خدمة الإنسان
لا تزال الدولة في جميع العصور محطّ اهتمام كل من الباحثين والمفكرين، فهي الكائن الذي يضمن استقرار المجتمعات وتنظيم شؤون الأفراد في مختلف المجالات. ومنذ أقدم العصور، ارتبطت الدولة بالدين ارتباطًا وثيقًا، سواء في السياقات القديمة حيث كان الدين هو المحرك الرئيسي لنظام الحكم، أو في السياقات الحديثة التي تجنب فيها الكثيرون دمج الدين بالحكم السياسي بشكل مباشر. ومع ذلك، ظل السؤال عن العلاقة بين الدين والدولة يشغل المفكرين، بين من يرى ضرورة الفصل التام بين الدين والسياسة (العلمانية) ومن يدعو إلى تأسيس الدولة على أسس دينية.
وفي هذا السياق، يُبرز مفهوم “الدولة المقاصدية” كحل وسط بين هذين المفهومين، حيث تستند إلى المقاصد الكبرى التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، دون أن تتحول إلى دولة دينية سلطوية أو علمانية قاصرة على المعايير الدنيوية البحتة. الدولة المقاصدية هي إطار تنظيمي ينطوي على مزيج من القيم الإنسانية المشتركة التي تسعى لتحقيق العدالة والمساواة والحرية، مع الحفاظ على احترام الخصوصيات الثقافية والدينية للمجتمع.
ولعل أبرز ما يُميز هذا المفهوم هو كونه دعوة لتجاوز الثنائية التقليدية بين الدولة الإسلامية والدولة العلمانية، حيث يسعى إلى إيجاد توازن بين الروحانية والوظيفة السياسية للدولة. وبذلك، تبرز الدولة المقاصدية كمشروع فكري وأخلاقي يُعنى بتحقيق المبادئ الإنسانية الكبرى التي تتلاقى مع الفطرة البشرية، وتُعزز الاستقرار المجتمعي والتنمية.
الدين والدولة: شركاء لا خصوم
إن العلاقة بين الدين والدولة هي علاقة تكاملية، وليست علاقة تضاد أو تباعد. فالدين يُغني السياسة بالقيم والمبادئ الأخلاقية التي تحفظ المجتمع من الفساد والانحراف، بينما تكون الدولة الأداة التي تُنظم هذه المبادئ وتضمن لها التطبيق الفعلي. وقد جاء الإسلام ليضع قاعدة متينة تقوم على العدل والمساواة في العلاقات الإنسانية، وتُعلي من قيمة كرامة الإنسان وحريته في إطار منظومة من القيم التي تتجاوز البُعد الطقوسي لتصل إلى كافة جوانب الحياة العامة.
وفي هذا الإطار، فإن الدولة المقاصدية تمثل محاولة لتوسيع دور الدين في المجال العام بحيث يصبح مصدرًا للقيم دون أن يتحول إلى أداة لفرض الهيمنة أو إخضاع الأفراد. هي دولة توازن بين التوجه الروحي الذي يُرشد الإنسان نحو الأخلاق، وبين الوظيفة التنظيمية التي تضمن حقوق الأفراد وتنظم حياتهم وفقًا لمقاصد الشريعة.
إن المقاصد التي جاء بها الإسلام هي قيم إنسانية خالدة لا تختص بمجتمع أو زمن معين، بل هي معايير تحكم العلاقات بين الناس وتنظم شؤونهم. إذ يمكن تلخيص هذه المقاصد الكبرى في خمس قيم أساسية، وهي: حفظ الدين، النفس، العقل، المال، والنسل، وهذه القيم ليست خاصة بدين أو معتقد، بل هي حقوق إنسانية تُؤكد على ضرورة رعاية الفرد والمجتمع من جميع النواحي، وتشكل قاعدة للعدالة الاجتماعية والتعايش السلمي.
الدولة المقاصدية: حل وسط بين العلمانية والدولة الدينية
تطرح الدولة المقاصدية رؤيتها كحل وسط بين الدولة الإسلامية التي ترتكز على القيم الدينية بشكل مباشر، والدولة العلمانية التي تسعى لفصل الدين عن السياسة بشكل قاطع. ففي حين تسعى بعض الأنظمة الإسلامية إلى فرض رؤية دينية على المجتمع، بما قد يؤدي إلى هيمنة الدولة الدينية، فإن الدولة المقاصدية تتبنى أسلوبًا مختلفًا، حيث لا يُفرض الدين بالقوة، ولا يُقصى عن الحياة العامة. هي دولة وظيفية، تركز على تحقيق العدالة الاجتماعية والحرية، مع احترام العقائد والمعتقدات المتنوعة بين أفراد المجتمع.
بينما تسعى العلمانية إلى إبعاد الدين عن الشأن العام، ترى الدولة المقاصدية أن الدين لا يمكن أن يُختزل في طقوس وشعائر فحسب، بل هو إطار أخلاقي يُعزز القيم الإنسانية الكبرى ويُثري السياسات العامة. وبالتالي، فإن الدولة المقاصدية تتجاوز الصراع بين الإسلام والعلمانية، بتأكيدها على البُعد الروحي والأخلاقي في السياسة، وجعلها أداة لتحقيق المصالح العامة دون التغول على حريات الأفراد أو فرض أي شكل من أشكال السيطرة الدينية.
التجربة النبوية: نموذج للدولة المقاصدية
تُعد التجربة النبوية في المدينة المنورة من أقدم وأوضح الأمثلة على فكرة الدولة المقاصدية. في المدينة، نجح النبي محمد ﷺ في إقامة دولة تعددية تقوم على العدالة والمساواة بين جميع مكونات المجتمع، بغض النظر عن الدين أو العرق. فقد أرسى النبي في “صحيفة المدينة” المبادئ التي تكفل حقوق المواطنين، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، وأكد على العيش المشترك والتعاون في خدمة المصلحة العامة.
لكن مع اتساع الدولة الإسلامية في العصور التالية، اختلط البُعد الأخلاقي للدولة بالبعد السياسي، مما أدى إلى بعض الاختلالات التي أفقدت الدولة الإسلامية توازنها بين الديني والسياسي. ولذلك، كان من الضروري إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة المقاصدية في العصر الحديث، بحيث تستلهم من التجربة النبوية دون الوقوع في أخطاء الماضي.
المغرب: نموذج معاصر للدولة المقاصدية
في السياق المعاصر، يحاول المغرب أن يقدم نموذجًا حيًا عن تطبيق المبادئ التي تنطلق من الدولة المقاصدية. فمنذ اعتماد دستور 2011، تسعى المملكة المغربية إلى تحقيق توازن بين الهوية الإسلامية للمجتمع وحماية التنوع الثقافي والديني. الملك بصفته أمير المؤمنين، يؤدي دورًا رمزيًا يعزز وحدة الأمة ويحفظ القيم الدينية دون تحويلها إلى أداة للهيمنة أو التحكم في السياسة.
كما بينت التجربة المغربية رغم المطبات في مجال السياسة التعليمية والاجتماعية أنها قادرة على جمع الدين مع الحداثة دون التعارض مع مبادئ حقوق الإنسان. على سبيل المثال، تأكيد المغرب على تعزيز العدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، والحفاظ على الهوية الثقافية في إطار احترام التنوع، كل ذلك دون أن يتخلى عن قيم الشريعة الإسلامية.
تجاوز الثنائية بين العلمانية المتطرفة والدولة الدينية
في مواجهة الأطروحات العلمانية المتطرفة التي تفصل بين الدين والسياسة بشكل كامل، أو تلك التي تسعى لفرض الدين بقوة على الحياة العامة، تقدم الدولة المقاصدية بديلاً عمليًا يُمكن أن يُحقق توازنًا حقيقيًا. هي دولة تستلهم الدين كمصدر للإلهام الروحي والأخلاقي، ولكنها لا تفرضه كأيديولوجيا سياسية على المواطنين.
الدولة المقاصدية لا تسعى لإقصاء الدين من المجال العام كما في العلمانية المتطرفة، بل تسعى لتكامل القيم الروحية والدنيوية بطريقة تحقق المصلحة العامة دون التأثير على حريات الأفراد. هي دولة تراعي احتياجات المجتمع في سياق عادل ومتوازن، مع احترام مبادئ الحرية الدينية والخصوصية الثقافية.
شروط نجاح الدولة المقاصدية
من أجل تحقيق نموذج الدولة المقاصدية، يتطلب الأمر توفر شروط أساسية تتعلق بالوعي السياسي والاجتماعي. أول هذه الشروط هو ضرورة توفر قيادة سياسية واعية بمفهوم الدولة المقاصدية ومباديء الشريعة، وقادرة على تحقيق التوازن بين الدين والسياسة. ثانيًا، يجب أن تتبنى القوانين والسياسات العامة مبدأ العدالة والمساواة، بحيث تُضمن حقوق الجميع دون تمييز أو قمع لأي فئة.
كما يتطلب الأمر ضرورة العمل على التعليم والتربية، حيث يجب أن تساهم المؤسسات التعليمية في زرع قيم المواطنة والعدالة والمساواة بين الأجيال القادمة، على أن يتم تعزيز هذه القيم من خلال الثقافة والوعي الاجتماعي الذي يتبنى الشمولية دون إقصاء أو تمييز.
خاتمة: نحو نموذج عملي ومثالي
الدولة المقاصدية ليست فكرة طوباوية، بل هي نموذج عملي قابل للتحقيق إذا توفرت الإرادة السياسية والوعي الفكري. هي رؤية تجمع بين الدين والحداثة، بين القيم الدينية والإنسانية، وتوفر إطارًا لتنظيم الحياة العامة بما يحقق مصالح الإنسان دون الإضرار بحريته أو حقوقه.
إن تطبيق هذا النموذج يُعيد الاعتبار للبعد الأخلاقي في السياسة، ويُعزز العلاقة المتوازنة بين الدين والدولة، مما يجعل الدولة المقاصدية نموذجًا جامعًا يُلهم المجتمعات في الشرق والغرب على حد سواء. إنها دعوة لنبذ الانقسام، وتجاوز ثنائيات الماضي، نحو المستقبل الذي يجمع بين الأخلاق والسياسة، بين الدين والحداثة، وبين الإنسان والدولة.
*المرتضى إعمراشا