المدونة.. مجرّد بداية!
أخيرا، وبعد مرور عام وثلاثة أشهر على الرسالة التي وجهها الملك محمد السادس إلي رئيس الحكومة، ظهرت في اجتماع العمل الذي ترأسه الملك مساء أمس الاثنين 23 دجنبر 2024، العناوين الكبرى للإصلاح المنتظر لمدون الأسرة.
قبل التطرّق إلى المضامين، لابد من تسجيل هذه المراجعة الجذرية التي همّت منهجية الإصلاح، حيث انتقلنا من مؤشرات إصلاح تقني يعالج ثغرات الممارسة والعمل القضائيين، إلى مؤشرات ورش تشريعي بأدوات تحترم الدستور نصا وروحا.
فالملك استقبل أمس أعضاء في الحكومة، فقط دون غيرهم، بعدما كانت الرسالة الملكية ليوم 26 شتنبر 2023 قد كلّفت رئيس الحكومة بتشكيل هيئة تضم المسؤولين القضائيين ووزير العدل، قبل أن تبدأ مراجعة المنهجي بتوسيع هذه الآلية، ثم بالاستدراك عليها بإحالة الملف على المجلس العلمي الأعلى، واليوم بات هذا الورش الإصلاحي يحترم منطوق الدستور الذي جعل التشريع للأسرة من اختصاص البرلمان، وهو ما يجسّده تكليف الحكومة وحدها باعتبارها مسؤولة أمام البرلمان وشريكة في المسطرة التشريعية، فيما تحضر روح الدستور من خلال إشراف الملك على هذا الورش، بصفته رئيسا للدولة وأميرا للمؤمنين.
هذا التغيير الذي همّ المنهجية يجنّبنا شبهات الإخلال بالمقتضيات الدستورية من جهة، ويستبعد المقاربة التقنية في الإصلاح، أي اختزال المشاكل المرتبطة بالأسرة في العمل القضائي والمساطر والسلطة التقديرية للقضاة… وهذا تطوّر إيجابي لابد من تسجيله.
أما من حيث المضمون، فالحذر المنهجي ما زال حاضرا في الخطوات الملكية، وهذا سلوك مطمئن، حيث بدا البلاغ الصادر عن الديوان الملكي، رغم عسر الفهم الذي أصاب الكثيرين، حريصا على احترام المقتضيات الدستورية من جهة، بالإشارة إلى دور ومسؤوليات كل طرف، وخاصة منهم الحكومة؛ ثم بتعبيره عن كون الأمر لم يحسم بعد، وما زالت هناك نقط عالقة، مع دعوته إلى الاجتهاد وتحميله للمشرّعين المسؤولية عن المراحل المقبلة.
ووفقا للمعطيات التي كشفها كل من وزير العدل ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أمام الملك مساء أمس، فإننا وإن لم نصل بعد إلى حسم النقط الأكثر حساسية، وهي الإرث بين المسلمين وغير المسلمين، وقاعدة التعصيب في الإرث، واعتماد الخبرة الجينية في تحديد النسب؛ فإننا أمام خطوات إصلاحية كبيرة نحو تحقيق عدالة أكبر داخل مؤسسة الأسرة، ومواكبة التطور الذي يشهده المجتمع، من خلال استثناء البيت الرئيس للأسرة من التركة ضمانا لاستقرار ذوي حقوق الهالك في حال غياب ابن ذكر، وفتح الباب أمام تقاسم الثروة عند الطلاق حتى في الحالة التي تكون فيها الزوجة ربة بيت، باعتبار عملها المنزلي هذا مساهمة في تشكيل الثروة.
لكن الإصلاح الحقيقي لا يُقاس بعدد التعديلات القانونية أو العبارات الطموحة التي تُصاغ في الخطابات، بل بمدى الجرأة في مواجهة المعضلات البنيوية التي تقيّد التحولات المجتمعية وتُبقي القانون رهينة لتوازنات ظرفية.
فإصلاح 2004 كان ثوريا وجريئا، لكن الاختلالات كانت كبيرة وصرح الأسرة شهد تآكلا رأينا نتائجه في أرقام الإحصاء السكاني الأخير، خاصة في انهيار معدل الخصوبة بكل ما يعنيه من تبعات اقتصادية واجتماعية وربما سيادية.
فمدونة الأسرة، التي مثّلت عام 2004 لحظة فارقة في تاريخ المغرب، عادت اليوم لتُختبر مرة أخرى، ليس فقط بقدرتها على التكيف مع المتغيرات، بل أيضًا بمدى قدرتها على مواجهة الجمود الفكري والاجتماعي الذي يعطل المضي قدمًا نحو مجتمع أكثر عدالة وإنصافًا.
وما يجري اليوم حول مراجعة المدونة يختزل معضلة أكبر تتمثل في ازدواجية الخطاب الرسمي في المغرب.
من جهة، هناك إدراك متزايد للتغيرات التي طرأت على البنية المجتمعية، سواء من حيث تطوّر أدوار النساء أو من حيث التحولات في العلاقات الأسرية؛ ومن جهة أخرى، هناك مقاومة شرسة لأي تعديل جوهري قد يُنظر إليه على أنه تجاوز للخطوط الحمراء، سواء تلك المرتبطة بالتقاليد أو بالدين.
لقد علّمتنا التجارب السابقة أنه ورغم ما تنطوي عليه الإصلاحات المعلنة من إيجابيات، تظل محدودة وقاصرة عن تقديم إجابات شاملة لتحديات الواقع.
إقرار تخويل الأم الحاضنة النيابة القانونية عن أطفالها، أو احتساب العمل المنزلي مساهمة مالية في تنمية الثروة الأسرية، أو الإبقاء على حضانة الأم المطلقة لأبنائها بعد زواجها، كلها خطوات مرحب بها، لكنها أشبه بترميم في جدار آيل للسقوط.
هذه خطوات تتعامل مع الأعراض، لكنها تتجنب مواجهة جذور المشكلة المتمثلة في منظومة قانونية وثقافية لا تزال تتعامل مع النساء كفئة تابعة، وتتردد في منحهن حق المساواة الكاملة. فهل سيكون من حقنا أن نأتي غدا لنستغرب المعاملة التمييزية ضد النساء في سوق الشغل، ومنحهن أجورا وتعويضات أقل، ووضع عراقيل أمام تطوّر مساراتهن المهنية، ونحن نواصل جعلهن في مرتبة دنيا في قانون الأسرة؟
إن القضايا التي اعتُبرت “خطوطًا حمراء” في رأي المجلس العلمي الأعلى، مثل قاعدة التعصيب أو التوارث بين المسلمين وغير المسلمين، تُظهر حدود الاجتهاد الفقهي وحدود قدرته على استيعاب تعقيدات العصر.
فإذا كانت قاعدة التعصيب ممثلا تبرّر بالحاجة إلى استمرار التضامن العائلي، فلماذا نستثني المرأة التي تقوم بدور الرعاية والتكفل بأسرتها الصغيرة أو الممتدة من حق ممارسة التعصيب مثلا؟
مقاصد الشريعة الإسلامية في مجال الميراث تسعى أساسًا إلى تحقيق العدالة وضمان توزيع الثروات بما يحقق الاستقرار الاجتماعي. وفي السياق الحالي، الذي تغيّرت فيه أدوار المرأة الاقتصادية والاجتماعية وأصبحت شريكا رئيسيا في تحمل الأعباء المالية للأسرة، يمكن الاجتهاد لإعادة تفسير القاعدة أو تقييدها بما ينسجم مع هذه المتغيرات.
وإذا كان الاجتهاد الديني لم يقدّم جديدا في مسألة التوارث بين المسلمين وغير المسلمين، فإن المشرّع مطالب بالبحث عن جواب لمعضلة قائمة تتعلّق بحالات الزواج المختلط العديدة، وخاصة منها في صفوف الجالية المغربية المقيمة في الخارج، لأن الناس سيبحثون عن الجواب في قوانين دول أخرى إن لم نقدّم لهم ما يحمي استقرارهم العائلي.
أما موضوع استعمال الخبرة الجينية في تحديد النسب، فمواصلة إنكاره سيجعلنا في موقع الخارج عن سياقه التاريخي والعلمي. وحجة النص الديني لا تصمد في هذا الموضوع، بدليل الاجتهاد الدقيق الذي قدّمه وزير العدل السابق والقيادي الإسلامي المصطفى الرميد، والذي بيّن كيف يتطابق استعمال الخبرة الجينية مع مقاصد الشريعة الإسلامية.
لابد من الإقرار أن عبارة “النصوص القطعية” أصبحت حجة تُرفع لعرقلة أي إصلاح جذري، رغم أن مقاصد الشريعة، كما يؤكد العديد من العلماء، تُعطي الأولوية للعدالة والمصلحة العامة. والسؤال هنا ليس فقط عن قدرة المجلس العلمي على الاجتهاد، بل عن الإرادة السياسية في الدفع بهذا الاجتهاد نحو آفاق جديدة تتجاوز القراءات التقليدية، لأن القرار في مدونة 2004 ذهب أبعد من اجتهاد العلماء، واستعان بمرجعيات مذهبية من خارج المدرسة المالكية.
الرهان الأساسي اليوم هو على التغيير الثقافي العميق. وإصلاح المدونة لن ينجح إذا اقتصر على تعديلات قانونية تُوضع على الورق دون أن تجد صداها في المجتمع. والتحدي الحقيقي يكمن في تغيير العقلية الجماعية التي لا تزال ترى في حقوق المرأة تهديدا لبنية الأسرة، وتعتبر المساواة تجاوزا للثوابت.
هذا التغيير يتطلب إرادة سياسية واضحة، وسياسات تعليمية وتوعوية تعمل على ترسيخ قيم المساواة والاحترام المتبادل بين الجنسين. أما إذا كان الإصلاح مجرد خطوة أخرى لتسكين الجدل وإرضاء جميع الأطراف دون حسم، فإننا سنكون قد أضعنا فرصة أخرى للتغيير الحقيقي.