المحكمة الدستورية تواصل تعزيز لبنات دولة الحق والقانون

يعتبر قرار المحكمة الدستورية رقم 255.25 المتعلق بمشروع قانون المسطرة المدنية رقم 23.02 حدثًا ذا أهمية كبرى في المشهد القانوني المغربي، حيث يعكس هذه القرار موقف المحكمة الرقابي الدقيق على مدى دستورية القوانين التي تمس حقوق الأفراد وضمانات العدالة. إذ أن المحكمة لم تكتفِ بمراجعة النصوص القانونية من الناحية الشكلية، بل قامت بفحص متعمق لمجموعة من مواد القانون والتأكد من توافقها مع المبادئ الدستورية الأساسية والكونية، خاصة ما يتعلق بحماية حق الدفاع، ومبدأ الأمن القضائي، وضمان استقلال القضاء ونزاهته.
هذه القرار يؤكد الدور الحيوي للمحكمة الدستورية كحارس للمبادئ الدستورية، ويبرز أهمية التوازن بين السلطة التشريعية واحترام الحقوق والحريات. كما يشكل التزاماً واضحاً بتقوية منظومة العدالة وتحقيق أعلى مستويات الحماية القانونية للمواطنين ضمن نظام دستوري يحمي حقوقهم ويضمن حسن سير العدالة في المغرب.
وهنا يأتي الدور الحاسم للقراءة الأكاديمية الدقيقة التي قدمها الدكتور جمال رياض، الخبير في القانون الدستوري والعلوم السياسية، والذي أوضح بالحجة والنصوص الدستورية أن المحكمة الدستورية لم ترفض المشروع عبثًا أو استجابة لأي ضغط، بل بناءً على خروقات واضحة تمس فصولًا صريحة من الدستور، هي الفصل 118 الذي يضمن حق التقاضي للجميع، والفصل 120 الذي يكفل حقوق الدفاع وضمانات المحاكمة العادلة، والفصل 121 الذي ينص على المساعدة القضائية لمن لا يملك الإمكانيات.
وقد شملت المواد غير الدستورية من المشروع، على سبيل المثال لا الحصر: المادة 17 التي تسمح للنيابة العامة بالطعن في الأحكام دون أي قيود زمنية، وهو ما يحد من استقرار المراكز القانونية ويمس بحق الدفاع؛ والمادة 84 التي لم تراعي التنظيم الإجرائي للتبليغ ضمن النطاق الموضوعي للمسطرة المدنية، وفق مقتضيات لا لبس فيها ولا إبهام، وهو ما قد يمس بمبدأ الأمن القانوني، والمقتضيات التي أحالت على المقطع المذكور أعلاه، في المواد 97 و101 و103 و105 و123 في فقراتها الأخيرة ومواد أخرى؛ و المادة 90 التي خالفت الدستور من حيث الضمانة الدستورية لحقوق الدفاع أمام جميع المحاكم، ومبدأ علنية الجلسات والاستثناءات التي ترد عليه قانونا؛ والمادتين 107 و364 اللتان تجدان من الحق في التعقيب على مستنتجات المفوض الملكي للدفاع عن القانون في مخالفة صريحة لمبدأ التواجهية الذي يترتب، من الناحية الإجرائية، على الكفالة الدستورية لحقوق الدفاع؛ و المادة 339 التي حصرت تعليل القرار في حالة رفض الطلب فقط، وهو ما لا يتطابق والمقتضى الدستوري حين أوجب الفصل 125 من الدستور أن “تكون الأحكام معللة…”، على سبيل الإطلاق ؛ و المادة 408 التي تجيز لوزير العدل أو للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، أن يقدم طلب الإحالة إلى هذه المحكمة المقررات التي قد يكون القضاة تجاوزوا فيها سلطاتهم”، في مخالفة صريحة للفصل الأول من الدستور الذي ينص على أنه: “يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط…”، وهو نفس التعليل المتعلق بالمادتين 624 و628.
هذه المقتضيات، كما بيّن الدكتور رياض، لا تتعارض فقط مع نصوص الدستور، بل مع المبادئ الكونية للمحاكمة العادلة، وهو ما جعل قرار المحكمة الدستورية بمثابة انتصار للحقوق والحريات الأساسية، وليس كما يحاول البعض تصويره كتصادم مع وزارة أو جهة معينة.
كما أشار الدكتور جمال رياض إلى أن المحكمة الدستورية لم تبسط رقابتها على جميع مقتضيات القانون رقم 02.23 المتعلق بالمسطرة المدنية وإنما اكتفت بالمواد والمقتضيات التي بدت لها بشكل جلي وبيّن أنها غير مطابقة للدستور أو مخالفة له، تاركة باقي المواد للنظر فيها في إطار المراقبة البعدية التي سيعمل بها بعد المصادقة على القانون التنظيمي المتعلق بإجراءات تفعيل مسطرة الدفع بعدم الدستورية والذي سبق لها أن بثت في عدم دستورية بعض مقتضياته. للإشارة، فهذه التقنية يعمل بها أيضا في التجارب المقارنة، حيث أن إحالة القانون على القاضي الدستوري لفحص دستوريته برمته (الاحالة البيضاء) دون تحديد المواد المشكوك فيها لا يلزم القاضي في بسط رقابته على جميع المقتضيات في ان واحد، وهذا النهج نجد مثالا له في القرار رقم 2023-863 الصادر عن المجلس الدستوري الفرنسي بتاريخ 25 يناير 2024.
وقد اعتمدت المحكمة الدستورية على هذه التقنية تفعيلا لإرادة المشرع الدستوري الرامية إلى ضمان التكامل بين الرقابتين القبلية الاختيارية والبعدية في إطار الدفع بعدم دستورية القوانين، تحقيقا لسمو الدستور وحماية للحريات والحقوق الأساسية التي يكفلها بموجب أحكامه، ولا سيما بالنسبة للنص المعروض الذي تنتظم به إجراءات الدعاوى الخاضعة للمسطرة المدنية.
وعرج الدكتور جمال رياض على بعض المقتضيات الأخرى في قانون المسطرة المدنية التي لم تكن محل رقابة القاضي الدستوري في قراره رقم 255.25، والتي قد يشوبها عيب عدم الدستورية، مما سيجعلها موضوعا للدعوى المستقبلية في إطار مسطرة الدفع بعدم الدستورية، فخص بالذكر المادتان 30 و31 اللتان يبدو أنهما تضيقان من حق التقاضي عبر تحديد اختصاص المحاكم وقيمة القضايا بما يحرم بعض المتقاضين من الاستئناف على درجتين، والمادة 32 التي منعت الطعن أمام المحكمة الابتدائية بحكم نهائي خلال أجل 15 يومًا، في مساس محتمل بضمانات الدفاع، والمادة 78 التي جعلت مكتب المحامي محلًا للمخابرة دون موافقته في خرق ممكن لسرية الدفاع، والمادة 93 التي فرضت غرامة على من يخالف الاحترام في المحكمة دون تمكينه من حق الاستئناف.
المؤسف أن هذه الانزلاقات التشريعية تتكرر، وأن الحكومة والسلطة التشريعية لم تتعلم بعد أن الدستور ليس مجرد ورقة للتزين السياسي، بل عقدا اجتماعيا ملزما وحامٍيا للحقوق أمام أي تغوّل أو استسهال في صياغة القوانين، وهو ما يبرز دور المحكمة الدستورية التي، حسب الدكتور رياض، تؤدي دورها بكل حيادية تجاه أطراف الإحالة، و أن قرارها مستقل لا يخضع لأي تأثير و لا يحتاج للترحيب من أي طرف، بل يجب التعامل معه بجدية والتزام والعمل على تعديل المقتضيات المخالفة للدستور، فقرارها المتعلق بعدم دستورية بعض أحكام قانون المسطرة المدنية ليس فقط ممارسة دستورية، بل انتصار لمبادئ دستورية أساسية ولا يصح تفسير قرار المحكمة على أنه تصادم مع أي جهة أو وزارة، فهو قرار نافذ، يمنحه الدستور حجية مطلقة وملزمة للجميع وغير قبل للطعن.
*الدكتور جمال رياض
*باحث في القضايا الدستورية والسياسية