المجلس الأعلى للتربية: مشروع قانون التعليم العالي يفتقر إلى رؤية واضحة

أصدر المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي رأيًا بشأن مشروع القانون المتعلق بالتعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، أكد فيه أن المشروع، ورغم تناوله لمختلف الجوانب المرتبطة بالمنظومة، “لا يُجسد بشكل كافٍ التوجهات الكبرى للسياسة العمومية في هذا المجال”.
وحذر المجلس من أن “غياب رؤية واضحة ومعلنة” ضمن مشروع القانون يشكل عائقًا منهجيًا أمام تحليله وإبداء الرأي بشأنه، سواء من حيث الانسجام مع مرجعيات الإصلاح الوطنية، أو على مستوى التناغم الداخلي بين مقتضياته التفصيلية وأُطُرها المرجعية.
وأشار إلى أن هذا الغموض من شأنه أن يُصعّب على الفاعلين المؤسساتيين، وهيئات التدريس والبحث، وحتى المجتمع، فهم المقتضيات المقترحة فهماً موحدًا، مما يجعله عرضة لتأويلات متضاربة، قد تفقده الانسجام وتُضعف قدرته على إحداث الأثر المنشود.
ملاحظات هيكلية
واعتبر المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، أن فعالية هذا النص التشريعي تظل رهينة بمدى وضوحه في تحديد وتأصيل وظيفة التعليم العالي ضمن مقتضياته، مشددًا على ضرورة التنصيص على نموذج يرتكز على الجودة والتجديد كمقومين أساسيين.
ويرى المجلس أن أي دعامة تشريعية موجهة لهذه المنظومة ينبغي أن تُبنى على تكامل واضح بين التوجهات المرجعية الوطنية، من جهة، وبين المتغيرات المتسارعة التي يعرفها التعليم العالي على المستوى الدولي، من جهة أخرى، لا سيما تلك المتعلقة بمعايير التكوين وإنتاج المعرفة والتكنولوجيا.
وسجل الرأي أن مشروع القانون، في صيغته الحالية، “لم يتطرق بالشكل الكافي إلى بعض المهام التي يُفترض أن يضطلع بها التعليم العالي والبحث العلمي”، والتي تُعد مكونات أساسية في الرؤية الاستراتيجية للإصلاح، معتبرا أن إدراج هذه المهام من شأنه أن يعزز وضوح المشروع ويقوي انسجامه.
ومن أبرز هذه المهام، أشار المجلس إلى ضرورة تطوير مهارات الطلبة وتنمية شخصيتهم، وتمكينهم من الكفايات الضرورية التي تضمن انفتاحهم وتوازنهم الشخصي، عبر هندسة بيداغوجية حديثة ومتكاملة.
ودعا إلى تمكين العموم من الوصول إلى المعرفة العلمية والتقنية والتكنولوجية، ونشرها بجميع الوسائل الممكنة، إضافة إلى الإسهام في تأطير الأنشطة الفكرية وتنشيط الحياة الثقافية، بما يعزز الأدوار المجتمعية للجامعة.
واعتبر المجلس أيضًا أن من بين الأدوار الجوهرية التي يجب التنصيص عليها في القانون، الاستجابة لحاجيات الإدارة والمقاولة والاقتصاد الوطني، من خلال توفير كفاءات مؤهلة ومتخصصة في إطار تعاقدات دقيقة وواضحة.
وسجل المصدر ذاته، أن النص بصيغته الحالية “لا يرتقي إلى مستوى تأسيس رؤية استراتيجية بعيدة المدى للمنظومة”، معتبراً أن بنيته العامة اتسمت بطابع محافظ، يغلب عليه منطق التعامل مع معطيات راهنة، عوض تقديم تصور استباقي للهندسة المستقبلية للتعليم العالي ومخرجاته.
وأكد أن قراءة معمقة لمضامين المشروع تُظهر أنه اكتفى إلى حد كبير بإعادة صياغة القانون المعمول به (القانون 01.00)، مع إدخال تعديلات جزئية، وصفها المجلس بأنها تفتقر إلى العمق، ولا تستجيب لرهانات التحول الحقيقي للمنظومة.
وأضاف المجلس أن إدراج جزء خاص بالبحث العلمي، رغم كونه من حيث المبدأ خطوة إيجابية، فإنه جاء بطريقة شكلية ومعزولة، دون أن يُدمج ضمن رؤية شمولية تُعزز تكامل منظومة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار.
ورصد المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي استمرار التشتت وضعف التنسيق الذي يطبع منظومة التعليم العالي بعد البكالوريا، في ظل غياب التكامل مع التكوين المهني، واستمرار التمايز بين القطاعين العام والخاص، وهو ما اعتبره المجلس عائقاً هيكلياً أمام بناء منظومة منسجمة وفعالة.
وأكد المجلس، في رأيه، أن محاولات تجاوز هذا الواقع لم تصل إلى حد تبني مراجعة جوهرية تضمن استقلالية حقيقية للجامعات، وتحفّز البحث العلمي عبر آلية مستقلة لتمويله، مع وضع الطالب في قلب التحول المنشود، مضيفا أن “المشروع لم يقدم نموذجاً استشرافياً متكاملاً لإعادة هيكلة التعليم العالي العمومي والخصوصي، ما يكرس واقع التشتت الذي طالما نبه إليه المجلس في دراساته وتوصياته”.
واعتبرت المؤسسة ذاتها أن غياب الإشارة إلى مخطط متعدد السنوات لإصلاح المنظومة، يمثل نقطة ضعف بارزة في المشروع، خاصة أن القانون الإطار يلزم الحكومة بتقديم هذا المخطط إلى المجلس لإبداء الرأي بشأنه، منتقدة عدم تحديد آجال واضحة لتنفيذ هذا المخطط، مما يُضعف إمكانية التتبع والتقييم.
وفي ما يتعلق بفتح فروع للمؤسسات الأجنبية، شدد المجلس على ضرورة مراجعة الإطار القانوني المنظم لها، مشيراً إلى أهمية احترام الاتفاقيات الثنائية المبرمة مع دول أجنبية، وكذا التمييز بين الحالات التي تتم عبر شراكات مباشرة مع جامعات أجنبية، أو بمبادرة من هيئات دولية، ما يفرض معالجة دقيقة حسب كل وضعية على حدة.
كما سجل المجلس كثرة الإحالات على نصوص تنظيمية في قضايا اعتبرها جوهرية، كان يُفترض أن يحسم فيها القانون نفسه، وهو ما يحد من قدرته على قيادة السياسة العمومية في مجال التعليم العالي.
وحذر من أن هذا التوجه قد يؤدي إلى ارتباك في التطبيق وضعف في الضمانات القانونية، بما يعطل تحقيق الأهداف المعلنة، ويُفاقم الفجوات القائمة، مما قد يهدد بتكريس التباينات بدل تجاوزها، ويُضعف الالتقائية المفترضة بين مختلف سياسات الدولة في القطاع.
اختلالات في بنية المشروع
ووجه المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي انتقادات تقنية لبنية وهيكلة النص، معتبراً أن الصياغة الحالية لا تواكب القواعد التشريعية المتعارف عليها، سواء على مستوى التقسيم الداخلي أو على صعيد الديباجة.
وسجل المجلس، في ملاحظاته، أن هيكلة المشروع جاءت غير متوازنة، إذ قُسِّم النص إلى عشرة أجزاء، لا تتبع نسقاً موحداً، بحيث يتضمن بعضها مواداً دون تبويب واضح، بينما يجمع البعض الآخر بين أبواب وفصول وفروع بشكل غير متجانس.
وأبرز أن هذا الخلل البنيوي أفضى إلى تداخل مواضيع مختلفة لا يجمعها رابط موضوعي، كما هو الحال في الجزء الرابع الذي يعالج في الوقت نفسه التنظيم البيداغوجي، والموارد البشرية، والطلبة، والدعم الاجتماعي، مما يفتقر إلى الدقة التشريعية والتبويب المنطقي.
أما فيما يخص ديباجة المشروع، فقد وصفها المجلس بأنها لا تتجاوز كونها إعلان نوايا، تغيب عنها آليات التنفيذ أو التفعيل، موضحا أن بعض المبادئ الكبرى التي وردت فيها، مثل “إرساء وحدة المرفق العمومي للتعليم العالي بين القطاعين العام والخاص” أو “تعزيز استقلالية الجامعات” و”حكامة المؤسسات”، تفتقر إلى أي تجسيد فعلي داخل النص القانوني، ما يجعلها غير ملزمة أو قابلة للقياس، وهو ما يُضعف من قوة الديباجة كمكون تشريعي موجه.
وفي هذا الإطار، اقترح المجلس الاستغناء عن الديباجة الحالية، وتعويضها بالاستناد إلى الديباجة الواردة في القانون الإطار، باعتبارها وثيقة مرجعية تشريعية، تُجسد اختيارات الدولة الكبرى في إصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، وتنطلق من الرؤية الاستراتيجية المعتمدة.