المالكي في دوري الملوك
فجأة استيقظنا على إيقاع أغاني المشجعين وهتافات الحالمين بانتزاع اللقب العالمي، واكتشفنا أننا نشارك في بطولة عالمية تتعلق بلعبة تشبه كرة القدم لكنها ليست كرة القدم، سواء التي عرفناها كلاسيكيا فوق ملاعب العشب أو تلك التي برزت في السنوات الأخيرة في الصالات.
بدون سابق إنذار ولا ندوات صحافية ولا مسؤولين بربطات عنق وبطون منتفخة حدّثونا عن التشكيلة والأهداف والطموحات والإمكانيات التي تمت تعبئتها والسياسات الرشيدة التي جرى اتّباعها… بل ودون حتى علم رجل الرياضة والمال الأول، فوزي لقجع، كما تقول التعليقات الفيسبوكية، نحن الآن في المربّع الذهبي لبطولة عالمية تقام في ميلانو الإيطالية، بعدما انتصرنا على الفريق الأمريكي، نعم انتصرنا على ممثلي الولايات المتحدة الأمريكية، وأصبحنا مقبلين على مواجهة جديدة مع المنتخب الكولومبي الذي فاز على “منتخبنا” في الدور الأول بأربعة أهداف لهدف واحد.
أنا شخصيا، ولي كل اليقين أنني لست الوحيد، احتجت إلى بذل الكثير من الجهد، والقراءة في مصادر متنوعة حتى أفهم (وماشي شي فهامة نيت) ما يجري. وهذا دليل آخر على عمق الهوة التي باتت تفصلنا، نحن الكائنات التي تواصل الالتصاق بما نعتقده “واقعيا”، في مقابل هذا الكون الجديد الذي يتشكّل في ما نطلق عليه “العالم الافتراضي” وها هو بافتراضي.
ففي عالم كرة القدم الذي اعتدنا فيه على الصرامة والتقليدية، ونتبجّح بامتلاك ناصية المعرفة بقواعده الراسخة، والتي تطوّرت على مدى قرن أو أكثر؛ جاء “دوري الملوك” كنسخة ثورية تعيد تشكيل اللعبة بأسلوب مبتكر يجمع بين الرياضة والترفيه الرقمي.
هذه البطولة، التي أسسها النجم الإسباني المعتزل جيرارد بيكيه، ليست مجرد دوري كرة قدم تقليدي؛ بل هي عرض يجمع بين القواعد المرنة، والتقنيات الرقمية، والتواصل مع جمهور شبابي يتوق إلى تجربة جديدة.
البطولة قائمة على فرق سباعية (7 لاعبين)، وتضم 12 فريقا، يُشرف على كل فريق قائد من عالم كرة القدم أو أحد صناع المحتوى البارزين.
تدوم المباريات لـ40 دقيقة فقط، ما يجعلها مكثفة وسريعة، وتتميز بقواعد استثنائية مثل “البطاقة الذهبية” التي تمنح امتيازات خاصة للفريق، وركلات الترجيح التي تُنفذ بأسلوب مستوحى من الدوري الأمريكي القديم، أي من منتصف الملعب.
وهنا ستبرز شخصية إلياس المالكي، صانع المحتوى الشهير، كقائد للفريق المغربي. وهو، لمن لا يعرفه، شاب مغربي برز كواحد من أبرز صناع المحتوى في إفريقيا والعالم العربي.
عُرف إلياس عبر منصات نشر المحتوى الرقمي مثل يوتيوب، واستطاع أن يحجز مكانا في قلوب طيف كبير من الشباب المغربي، بمحتوى يمزج بين الترفيه والنقد الاجتماعي.
هذا النجاح الرقمي كان وراء اختياره من طرف بيكيه لقيادة الفريق المغربي في “دوري الملوك”، في خطوة تعكس رؤية البطولة التي تجمع بين الرياضة وصنّاع المحتوى الرقمي.
اختيار جريء، يبدو أنه يرمي إلى أن يربط البطولة بجمهور جديد من الشباب عبر رموز مؤثرة في العالم الرقمي. ولم يكن إلياس المالكي هنا مجرد قائد فريق؛ بل كان ممثلا لجيل يجد في العالم الرقمي وسيلة للتعبير عن نفسه.
لكن وبينما كان الجمهور المغربي يترقب أداء المالكي في البطولة، صدرت تقارير عن إلغاء مشاركته بسبب اعتقاله ومحاكمته وإدانته مؤخرا بسبب تعبيرات صادرة عنه واعتبرت مسيئة، ليكتفي في الونهاية بقيادة الفريق من غرفته المتواضعة.
قد يبدو “دوري الملوك” للبعض مجرد عرض كروي ترفيهي، ولكنه في الحقيقة يعكس تحولات أعمق في صناعة الرياضة، وصناعة الترفيه، وصناعة النجوم والقادة في المستقبل.
أما إلياس المالكي، فهو نموذج يعكس التحديات التي تواجهها التنشئة الاجتماعية لجيل ما بعد الشبكات الاجتماعية، وعمق الهوة التي تفصلنا عن الأجيال الصاعدة وقيمها وتمثّلاتها حول نفسها وحول محيطها.
لست من متابعي المالكي ولولا الفضول المهني لما كنت قد بحثت عنه أو تابعته، لكنه بمثابة الظاهرة التي تسائلنا وتفرض علينا الجلوس أرضا والتواضع وإعمال العقل لمحاولة فهم واستيعاب هذه الديناميات الجديدة التي ستفاجئنا بالمزيد، مثلما فاجأتنا اليوم ببلوغ نصف نهائي بطولة عالمية وأجبرتنا على رفع الأعلام الوطنية والهتاف خلفها.
إن في الواقعة الجديدة درس بليغ وعبرة لمن يريد أن يعتبر: السبيل إلى مواكبة التطور السريع والتأثير الرهيب الذي تنتجه العوالم الرقمية حاليا، ليس العقاب والزجر والسجن والمحاكمات، بل التأقلم والتواصل والفهم وتعميم الوعي الرقمي.
لا يمكننا أن “نعيد تربية” الأجيال التي سيخرّجها إلياس المالكي وأمثاله من المؤثرين الحقيقين، باللجوء إلى تشديد العقوبات في القانون الجنائي وتعبئة النيابة العامة والشرطة والقوات العمومية.
هذا الشاب الذي نجح اليوم في تحريك المشاعر الوطنية من “بيت فوق السطاح” وسط حيّ شعبي في مدينة الجديد، يهدينا فرصة فوق طبق من ذهب لمدّ جسور التواصل مع هذه العوالم الرقمية، والنزول من أبراجنا العاجية، والتخلي عن فزاعة “التفاهة” التي نرفعها في وجه كل ما هو جديد ومختلف…
وديما مغرب!