story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الكملي ووجيه والملك.. المنبر في القصر

ص ص

لم تكن أمس، الخميس 26 رمضان 1446، مجرد ليلة من ليالي الشهر الكريم، ولا مجرّد إحياء لطقس ديني اعتاده المغاربة منذ قرون، بل تحوّلت لحظة إحياء ليلة القدر، كما ظهر فيها الملك محمد السادس، إلى لحظة سياسية محمّلة بالإشارات، ومفتوحة على أكثر من قراءة.

فبعدما جرى الإعلان رسميا عن تعذّر إقامة الأنشطة الملكية المعتادة خلال شهر رمضان، بسبب الوضع الصحي للملك عقب العملية الجراحية التي خضع لها على مستوى الكتف، جاء ظهوره في حفل ليلة القدر كمفاجأة للجمهور، ومادة دسمة للتأويل والتفاعل عبر منصات التواصل الاجتماعي.

لقد تابع الجميع هذا الظهور بعيون مترقبة ومشاعر مختلطة من الاطمئنان والفضول، حيث شكّل الحضور الجسدي للملك أول إطلالة رسمية له منذ بداية رمضان، وهو ما يمكن قراءة دلالاته من خلال ما تداولته منصات التواصل الاجتماعي، لا ما تبقى من صحافة يبدو أن ركب التطورين، التقني والاجتماعي، يتجاوزها بكل طمأنينة.

اللافت في هذا الظهور أنه لم يكن مجرد إطلالة للملك وهو يتقدّم صفوف المصلّين، بل ميّزته أيضا تلك الخلفية الرمزية لهذا المشهد، حيث لفت انتباه المتابعين وجود شخصيتين دينيتين غير رسميتين خلف الملك، هما العالم المغربي المعروف سعيد الكملي، والمتخصص في علم البيان والخطابة عبد الواحد وجيه.

لا يمكن أن يكون اختيار سعيد الكملي ليظهر خلف الملك مجرد صدفة بروتوكولية، بل هو اختيار محسوب بعناية، يعكس وعيا عميقا بمكانة هذا العالِم لدى شريحة واسعة من المغاربة، خاصة منهم الشباب المتدين والمتابع لمنصات التواصل الرقمي.

الكملي، بخطابه التقليدي الهادئ، وسعة اطلاعه الفقهي، وابتعاده عن الجدل السياسي، بات أحد رموز التدين المغربي الوسطي في زمن التيه والضبابية.

أما عبد الواحد وجيه، فببيانه الخطابي المؤثر، وحضوره الأدبي المميز، يشكل بدوره أحد أبرز الوجوه الجديدة في التعبير الديني بطريقة تتسم بالجمالية ومخاطبة الروح.

هذا التفصيل، رغم بساطته الظاهرة، حوّل المشهد من مجرد طقس ديني إلى لحظة تواصلية بامتياز، وجعل من الصورة رسالة مضاعفة: أولا بظهور الملك نفسه في ظرف صحي خاص، وثانيا من خلال الأسماء التي ظهرت في محيطه القريب.

في سياق يحكمه بروتوكول ديني صارم، تخضع فيه تفاصيل الحضور الملكي في المناسبات الدينية لأقصى درجات التنظيم والانضباط، لا يمكن اعتبار هذا الاختيار أمرا عفويا.

فظهور شخصيتين دينيتين تحظيان بمتابعة جماهيرية كبيرة، خارج الإطار المؤسسي الرسمي، يؤكد أن القائمين على ترتيب هذا المشهد يدركون جيدا حساسية المرحلة، وحاجة المؤسسة الملكية إلى تعزيز الجسور الرمزية مع المجتمع، خاصة في ظل السياقات الوطنية والإقليمية المتحركة.

رسالتان أساسيتان يمكن استخلاصهما من هذه اللحظة البصرية الرمضانية: الأولى أن المؤسسة الملكية، وعلى رأسها الملك نفسه، حريصة على ألا يغيب حضور “أمير المؤمنين”، ولو في الحد الأدنى، عن لحظات التجمّع الرمزي والديني للمغاربة؛ والثانية أن الانفتاح على الوجوه الدينية ذات الشعبية الواسعة يمثل شكلا جديدا من التفاعل مع دينامية المجتمع الرقمي، حيث بات للخطاب الديني وجوه غير تقليدية لا تمر بالضرورة عبر المؤسسات الرسمية.

ومن خلال هذا الترتيب الدقيق للمشهد، بدا واضحا أن غياب الدروس الحسنية هذا العام بسبب الوضع الصحي للملك، لم يمنع المؤسسة من إنتاج لحظة رمزية بديلة، تُبقي على تواصلها مع المجتمع، وتؤكد استمرار الطقوس في أداء وظيفتها السياسية والدينية.

فالحفل تحول إلى “درس بصري” حي، قُدّمت فيه رسائل رمزية متعددة، من بينها تثمين العلماء الشباب، وتحييد الخطاب الديني عن التوظيف السلطوي المباشر، وفتح المجال لتعدد المرجعيات داخل الحقل الديني، طالما أنها لا تنازع الملك موقعه كأمير للمؤمنين.

مشهد، رغم قوته الرمزية، لا يمكن فصله عن المسار الطويل لإعادة هيكلة الحقل الديني في المغرب، والذي أطلقته المؤسسة الملكية عقب تفجيرات 16 ماي 2003. فقد تبنّى المغرب، منذ ذلك الحين، خيارا استراتيجيا يقوم على مركزية إمارة المؤمنين، وعلى بناء منظومة مؤسساتية متكاملة تحت إشراف مباشر من الملك.

وشملت هذه المنظومة إصلاح التعليم العتيق، وتأهيل الأئمة، وإحداث معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين، وإعادة انتشار المجالس العلمية في كل الأقاليم، ناهيك عن توجيه الدعم الرسمي للإعلام الديني، ومأسسة الحضور المغربي في إفريقيا من خلال تصدير النموذج الديني المغربي.

هذه المقاربة جعلت من الطقوس الدينية الملكية، خصوصا في رمضان، محطة لتجديد العهد بين الدولة والمجتمع. فالدروس الحسنية، وصلاة التراويح، وحفلات ليلة القدر، لم تكن يوما مجرد لحظات روحانية، بل كانت مناسبة لإعادة إنتاج الرمزية الدينية للملك، وتأكيد موقعه كضامن للوحدة العقدية للأمة.

ومع ذلك، هناك أسئلة معلّقة، تتجاوز اللحظة الاحتفالية:
إلى أي حد يمكن لمثل هذه الطقوس أن تواصل أداء وظيفتها في مجتمع يتغيّر بسرعة، ويتجه نحو فردانية متزايدة، ويخضع لتأثيرات رقمية وإعلامية غير مسبوقة؟

هل تكفي الصورة الرمزية في إنتاج الإجماع الوطني، أم أن الحاجة اليوم باتت تستدعي صياغات جديدة للمشروعية، تتجاوز الطقس نحو المشاركة والمساءلة والتمثيل؟

هناك حقيقة لا يمكن إنكارها، وهي أن “إمارة المؤمنين”، كما تبلورت في السياق المغربي، أثبتت قدرة عالية على التأقلم مع المتغيرات، وعلى تجديد أدواتها دون أن تمسّ بجوهر وظيفتها. لكن مع الجيل الجديد من المغاربة، المتصل باللحظة الرقمية والعابر للحدود الرمزية التقليدية، باتت هذه المؤسسة مدعوّة إلى إعادة التفكير في طرائق التواصل والتأثير، لا سيما في ما يتعلق بالمجال الديني الذي يشهد تنوعا واتساعا متزايدا في مصادر التأثير.

لقد قال الملك، من خلال ظهوره في تلك الليلة الرمضانية، إنه لا يزال حاضرا، وممسكا بخيوط الشرعية الدينية، وإن غيّبته الظروف الصحية مؤقتا. وقال من خلال الكملي ووجيه، إن الدولة لا تمانع في احتضان وجوه دينية غير رسمية، طالما أنها تلتزم بثوابت الأمة.

لكن الرسالة الأهم هي أن المغاربة، وهم يتابعون هذا الحفل الرمضاني، لم يكونوا يبحثون فقط عن طمأنة حول صحة الملك، بل عن توازن ديني-سياسي-رمزي يضمن استمرار الثقة، ويجدّد العلاقة مع رأس الدولة في بعدها الديني. وهنا بالضبط تكمن قوة اللحظة، وهشاشتها في آن.

فالرمز لا يمكنه أن يعيش دون سياق، ولا أن يؤثر دون سند اجتماعي حقيقي. والشرعية لا تُستبقى بمجرد الظهور، بل بما تُبنى عليه من حوار، وانفتاح، ومشاركة… أي من ديمقراطية.