الكبار يلعبون بالنار
كنت أتردد كثيرا وأنا أمارس رياضة الرقابة الذاتية، كما هو مطلوب بقوة الواقع، كي لا أبدو كما لو أنني أحرض أو أشجع على وقوع الأسوأ، رغم أن هذا الأسوأ اللعين يسيطر على ذهني منذ اليوم الذي تبين فيه أن الاحتجاجات الطبيعية والمشروعة التي يخوضها أساتذة التعليم العمومي، لا تعالج من جانب المدبرين بالقدر اللازم من المسؤولية.
ترددت أكثر من مرة في التذكير بأحداث 1965 وكيف انطلقت شرارتها من المدارس وتحولت إلى ما يعلمه كل متابع للتاريخ المعاصر للمغرب، ولا داعي لذكره، ترفعا وتطيّرا.
ومررت بكثير من السرعة على بعض اللحظات الصعبة التي عاشها المغاربة في العقود الماضية في ارتباط باحتجاجات رجال ونساء التعليم. لكن ما جاء أمس ليذكرنا وينبهنا ويدق ناقوس الخطر قرب آذاننا، هو ما جرى في إحدى الثانويات الإعدادية بالقرب من سيدي سليمان. تعالوا نقوم بإطلالة سريعة:
أتتنا منصات التواصل الاجتماعي يوم أمس بصور ولقطات رفض عقلنا الباطن في البداية تصديقها أو أخذها على محمل الجد. كنت شخصيا أمنّي النفس بأن تكون مجرد مشاهد “قديمة” ومبتورة ولا علاقة لها بالسياق الحالي: مجموعات كبيرة من الأطفال اليافعين (مراهقون) يهاجمون بعنف مؤسسة تعليمية، مكسرين ومخربين كل ما يصادفونه في طريقهم بدءا من بوابتها الرئيسية ووصولا إلى الملفات والوثائق الإدارية.
كنت شخصيا أرفض تصديق مشهد ذلك الطفل الذي يحمل الحجارة ويلقي بها بكل ما أوتي من قوة نحو أبواب ونوافذ وطاولات المؤسسة التعليمية التي تبدو جميلة، لأنها كما سأعرف لاحقا خرجت حديثا من عملية تجديد وتهيئة شاملين لمرافقها.
آثرنا عدم التسرع واختار زملاؤنا المشرفون على صفحاتنا في الشبكات الاجتماعية التريث إلى حين التأكد من صحة تلك المشاهد ومن وقوعها بالفعل في تاريخ الثامن من يناير 2024، أي اليوم الذي كتبنا فيه في هذا المكان بالضبط ضرورة وضع نهاية لمسلسل الشد والجذب في ساحات المدارس ورفع الملف إلى قمة هرم الدولة، أي المؤسسة الملكية، لحسمه بشكل يمنع وقوع الأسوأ.
استعنت بصديق يجمع بين الاهتمامين الإعلامي والتعليمي ويعرف المنطقة التي تشير اللقطات المتداولة إلى وقوعها فيها، من خلال ظهور اسم الثانوية الإعدادية في مدخل المؤسسة ضمن إحدى لقطات الهجوم المراهق، ليتأكد لنا أن الأحداث حقيقية ووقعت بالفعل في اليوم نفسه وترتبط، نعم ترتبط، بالتوتر الذي يخيم حاليا على المدرسة العمومية.
القصة كما روتها مصادر متقاطعة، تعود إلى انقطاع تلاميذ المؤسسة الطويل عن الحصص التعليمية بفعل الإضرابات المتسلسلة منذ بداية الموسم الدراسي. وفي الوقت الذي تحركت السلطات لجعل الاتفاق الأخير الموقع بين الحكومة والنقابات المعترف بها قانونيا، نقطة نهاية لهذه الإضرابات من خلال قرارات توقيف في حق بعض الأساتذة، و”تكييف” الزمن المدرسي لإجراء الفروض الضرورية لإنهاء الدورة الأولي من السنة، تناهى إلى علم تلاميذ هذه المؤسسة أنهم سيخضعون لاختبارات (فروض) لم يروا أنهم تلقوا من الدروس والتحصيل العلمي ما يبرر وجودها، فمروا إلى العنف.
نعم لا ينبغي لهذا الحادث الاستثنائي والمعزول (تطوعت لقول ذلك قبل أن يقوله بلاغ رسمي) أن يحمّل أكثر مما يحتمل، ولا أن ينفخ فيه بسوء نية لتأجيج النفوس أو التحريض، لكن لا ينبغي أيضا التغاضي عنه أو استصغاره أو تجاهله.
المصادر التي حضرت الواقعة تروي فصولا مخيفة لانفلات الوضع وتعرض مدير المؤسسة وكل من فيها للاستهداف (هناك معلومات لكنني لا أريد الجزم بها لترك التحقيقات القانونية تأخذ مجراها)، واضطرار عناصر الدرك الملكي إلى طلب المساندة من ناحية سيدي قاسم…
يا عباد الله إنكم تلعبون بما هو محرّم اللعب به أو التهاون في تدبيره. الاحتجاج والاضراب حق دستوري وطبيعي وليس جرما ولا عصيانا. لا أحد، وأنا منهم وقد كتبت ذلك قبل أسابيع هنا مطالبا بوقف الإضرابات وأخذ مصلحة التلاميذ بعين الاعتبار… لكن لا شيء يبرر تجريم ما لا يجرّْم أو الدوس على القوانين من طرف القائمين على تنفيذها واحترامها.
قرارات التوقيف، وبصرف النظر عن احترامها للشكليات المسطرية، هي لعب بالنار وتجرؤ على الدستور وضرب لما تبقى من ثقة في الدولة ومؤسساتها. الاقتطاع من الأجور وقلنا فيه نقاش ويمكن المجادلة به واعتباره ثمنا يمكن لمن اختار أن يناضل أن يدفعه، لكن أن يتحول الاضراب كحق دستوري محمي بالالتزامات الدولية للمغرب، إلى خطأ في نظر الإدارة ومطية للمساس بالاستقرار المهني والحق الطبيعي في الشغل… فهذا سلوك لا يختلف في شيء عن سلوك ذلك المراهق الذي يرشق مدرسته بالحجارة.
هناك منذ بداية التحرك الاحتجاجي للأساتذة مؤشرات لا تطمئن عن وجود محتمل لأياد تتدخل بين الفينة والأخرى لخلط الأوراق وتضبيب المشهد، خاصة في اللحظات التي يبدو فيها المشكل في طريقه إلى الحل. تحركات هذه الأيدي تبدو كما لو تستهدف الوزير بنموسى حينا، أو تغرّق الشقف لرئيس الحكومة حينا آخر، وسواء كان الاحتمالان معا صحيحان أو أحدهما، فإن من يفكر في استعمال المدرسة العمومية أداة في صراعات وحسابات صغيرة يتلاعب بمصيرنا جميعا، من حيث يدري أو لا يدري.
لقد رأينا الصغار يوم أمس في سيدي سليمان “يلعبون” بتخريب مدرستهم، لكن ما نخشاه هو أن يكون الكبار أيضا يلعبون. والمقصود هنا بالكبار هم البالغون ممن تجاوزوا سن الطفولة والمراهقة، لكن المعنى الآخر لكلمة “الكبار” أيضا لا يبدو بعيدا عن الصحة.
فلا تلعبوا بالنار رجاء.