story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

الفقيه وسياسة الشرق الأوسط.. متى يجوز الحديث؟

ص ص

يعرَّف الفقه بأنه العلم بأحكام الشريعة، وهذه فيها العبادي وفيها الجنائي، كم فيها ما تعلق بالنكاح وما تعلق بالمعاملات.

وعموما يمكن إرجاع فروع الفقه إلى أصلين كبيرين، العبادات و”الأصل فيها التوقف حتى يرد الإذن”، والمعاملات و”الأصل فيها الإباحة حتى يرد الحظر”، كما ورد عند أبي إسحاق الشاطبي في “الموافقات”. المعاملات متعلقة بالزمن، مشروطة بتغيره وتقلبه، وتلك هي الحكمة من جعل مجال التشريع فيها أكثر انفتاحا من مجال العبادات.

ولما كانت كذلك، فقد احتاجت أكثر من غيرها ل”تحقيق المناط”، أي إلى “النظر في تعيين المحل لتنزيل الحكم عليه”؛ حسب نقل عبد الله بن بية عن الشاطبي (راجع “تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع”، ص144).

السياسة من المعاملات، وهي عالَم يحتاج علما، واقع سياسي تحكمه قواعد تحتاج إلى فهم، وقبله إلى مناهج لتيسير هذا الفهم وتسديده. وفي هذا يكون الفقيه في حاجة إلى العلم بعلوم السياسة قبل الحديث في عالَمها، لأننا نكون بصدد أحكام وفتاوى لا بصدد آراء تذروها الرياح. وإن مسؤولية الفقيه في هذا الباب تفرض عليه علما بعلوم: السياسة، العلاقات الدولية، الجغرافيا السياسية، الاقتصاد السياسي، الاقتصاد، علم الاجتماع السياسي، إلى غير ذلك من العلوم التي يفرضها الحديث في “عالَم السياسة”.

وإن الفقيه الذي لا حظ له من هذه العلوم، أو لا ينصت لرجل السياسة وينزع إلى “تحقيق المناط” في مسائلها من عنده؛ هذا الفقيه قد يُفسِد من حيث يريد الإصلاح.. الفقيه الذي لا يعرف أن سياسة الدول مصلحية أساسا عليه أن يصمت، لأنه قد يؤيد مصلحة دولة أجنبية دون أن يدري، ومن حيث يعتقد أنه ينصر قضية عادلة. والمؤسف أنه قد يقدّم موقفه السياسي المنحاز وغير الدقيق أو السديد في لبوس شرعي!

الفقه مسؤولية، تقاطع بين الديني والسياسي، بين اللاتاريخي والتاريخي. يجب الحذر من استغلاله في فتنة، وقد سبق أن استغلته “هيئات علمائية” ورموز فقهية زمن “الربيع” لاستهداف دول ذات سيادة، وهناك من يستدعيه اليوم لتبرير سياسة طرف بعينه في الشرق الأوسط. لا نتكلم في النوايا، فليس علم النفس علما خالصا للسياسة. وإنما حديثنا هنا عمّا أسماه الشاطبي “النظر في تعيين المحل لتنزيل الحكم عليه”.. فعندما يخطئ الفقهاء في “تعيين المحل” يستنبطون أحكاما مفسدة تحت قناع عشرات “المقاصد العامة”.. هذه صناعة راجت بكثافة زمن “الربيع”، واليوم يعاد تدويرها في شرط جديد عنوانه “نصرة فلسطين ودعم المقاومة”.

والحقيقة أن الواقع في الشرق الأوسط جد معقد، ودعم المق-او-مة لا يعني إغماض العينين عن هذا التعقيد.. بل إن المق-او-مة جزء منه، وبمراعاته تستمر وتعيش وتحافظ على وجودها وتعيد إنتاج تنظيمها وإيديولوجيتها. ومهما كانت السياسات الفاعلة في الشرق الأوسط فهي تبحث عن مصلحة، بما في ذلك سياسة المقاومات نفسها وإلا لما تعددت توجهاتها.. وليس شرطا في ذلك وعي الأفراد، فكثير هم أولئك الذي يصدرون عن قناعات راسخة وعظيمة لكنها تصب في سياسة من السياسات في نهاية المطاف.

وإن الفقيه الذي لا يعرّف الدولة كجهاز وإيديولوجيا لمصلحة، كموقع جيوسياسي في منطقة ما، كفعل تاريخي لا يهتم بالمثُل من باب أولى، كقرار سياسي خاضع لميزان القوى الدولي؛ هذا الفقيه في حاجة إلى مناط يحققه عالِم السياسة، حتى لا يقول فيها برأي ذاتي غير موضوعي، لا يستوعب كافة شروط التحليل، ولا يتقصى كافة معطيات الواقع أو المتوفر منها على الأقل. وهذا ما قد يحصل للبعض عند الحديث في موضوع “السنة والشيعة ونصرة فلسطين”، ومن أمثلة ذلك:

-إخضاع السياسة لتقسيم “سني-شيعي”:

في حين أن السياسة لا تخضع لتقسيم سني-شيعي؛ فهذا تقسيم إيديولوجي من الناحية السياسية. الدول التي ترفض تشيع إيران تواجه مخططاتها التوسعية تدافع عن أمنها السياسي من باب أولى، الخطاب الشيعي لإيران خارج حدودها خطاب توسعي من باب أولى. علاقة الشيعة والسنة بفلسطين سياسية من باب أولى، ولا تهم في ذلك النوايا المثالية للأفراد.

من حق إيران الدفاع عن مصالحها القومية، وكذلك هو حق الدول العربية. وعندما تتجاوز الدولة الإيرانية حدودها، فإن مواجهتها على جغرافيا الوطن العربي تصبح تحصيل حاصل.. “القوميون” عليهم أن يتذكروا معركة الشهيد صدام حسين جيدا، عليهم أن يتذكروا كيف تم إسقاطه داخليا وخارجيا، طائفيا وأمريكيا.

الوطن العربي تقوده الدول العربية، وليس أي دولة دخيلة بغض النظر عن التحالفات والتقاربات التكتيكية هنا وهناك، وبغض النظر عن الإيديولوجيا التي تتبناها هذه الدولة الدخيلة.. الوطن العربي مصالح قديمة ومستمرة، تراكم من النضال العربي والوطني.. لا يجوز أن تفرط الشعوب العربية في هذا الرصيد من أجل نزوة عابرة!

-التحيز الإيديولوجي للنظام السياسي الشيعي على حساب النظام العربي:

في حين أن ما قدمته الأنظمة العربية للقضية الفل-سط-ينية كبير ومهم جدا؛ فقد احتضنت النضال الفل-سط-ني منذ تأسيسه، وقبل ظهور أنظمة بعينها على خارطة الشرق الأوسط. وقد تحملت دول عربية مسؤولية لجوء قيادة الم-قاو-مة على أراضيها؛ نتحدث عن الأردن ولبنان وتونس وسوريا. وقد دخلت هذه الأنظمة هذا الصراع بشكل مباشر في 48 و67 و73، قبل أن تدعم دول جديدة اختيارات المق-او-مة تحت حجاب وبشروط وفي حدود تفرضها الأهداف الجيوسياسية وقواعد الاشتباك.

وفضلا عن ذلك فإن المقارنة اللاتاريخية بين ما سماه البعض “الأنظمة السنية” و”الأنظمة الشيعية” مقارنة غير منصفة وغير سديدة، كما أنها لا تفهم الواقع كما هو في وضعه الحالي. ترى نوعا بعينه من الدعم، لأنها لا تعرف في فل-سط-ين إلا لغة واحدة، هي لغة الفصيل الإسلامي في المق-او-مة.

-إغفال طبيعة العلاقة بين إيران وأمريكا في الشرق الأوسط:

إذ هناك توافقات تكتيكية بين الإمبيالية وإيران، وهذا لا ينفي الصراع الاستراتيجي بينهما. وجود إيران الجديدة في حد ذاته أربك حسابات دول عربية كانت تشكل خطرا على الإمبريالية في المنطقة، نتحدث هنا عن العراق تحديدا، وربما عن اليمن أيضا!

منذ أن وجِدت إيران الجديدة وهي تلعب على حبلين في المنطقة، حبل خدمة مصالحها كدولة من حقها التقدم والمناورة كباقي دول، وحبل التوسع وإرباك حسابات دول عربية كبرى، أبرزها السعودية وسوريا. التوافق السوري الإيراني مرتبط بسياقه، وبشار الأسد يحسب له اليوم حسابا جديدا، في علاقته بالدول العربية وروسيا والغرب.

إيران في علاقتها بالأمريكي تنهج سياستين، تنتعش مطالبها مع “الديمقراطيين”، وتنحسر مع “الجمهوريين”.. التوترات التي يتم افتعالها في عهد “الديمقراطيين” تخدمها إلى حد بعيد، ويبقى تحديها الأكبر في عهدهم عدم تحول التوتر إلى حرب كبرى لا تريدها ولا تقدر عليها، على الأقل حاليا. التوتر الذي يمنح مطلب “النووي الإيراني” إمكانات أكبر هو ما ترغب فيه إيران، وتتوافق مع حلفائها في لبنان واليمن والعراق على أساسه.

ما علاقة إيران بالم-قاو-مة في فل-سط-ين إذن؟ تدعمها، وهذا مهم للم-قاو-مة. لكن هذا الدعم ليس شيكا على بياض، أي ليس بدون سياسة أو تخطيط، أو بدون تفكير استراتيجي. الدعم وسيلة من وسائل الضغط، فإلى هذا المستوى أو ذاك من الدعم، يمكن لإيران أن تناور الأمريكي أو تضغط عليه. قد يقول قائل: ولماذا لا تفعل الدول العربية نفس الأمر؟ ليست لهذه الدول نفس خطة إيران ولا نفس تاريخها ولا نفس علاقتها بالشرق الأوسط ولا نفس علاقتها بالأمريكي ولا نفس رهاناتها في هذه العلاقة.. من يطرح هذه الأسئلة ويعتمد هذه المقارنات يتكلم بهواه لا بمنطق ما يفرضه واقع سياسي قائم. ولا أدري هل يستحضر الفقيه كل هذه الأبعاد قبل الحديث عن “الدعم الشيعي”؟!