الفقيه التكنوقراطي
“إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذه بحظ وافر” حديث نبوي شريف.
اعتمد كثير من علماء الدين والفقهاء على هذا الحديث، لتشييد سلطة أخلاقية، ومرجعية داخل المجتمعات الإسلامية، لكن البعض منهم لا يعمل بمقتضيات وتكاليف هذا الحديث، الذي كما يمنح هذه السلطة الرمزية، فإنه بالمقابل يجعل من مسؤولية العلماء الإبلاغ عن الموقف الشرعي من النوازل، مجردا من نوازع الهوى، ومن الخوف عن قول الحق، ومن ابتغاء رضا الحاكم أو صاحب السلطة، كما يجعل القيمة الاعتبارية للعالم تسمو كلما ابتعد عن شهوات الدنيا، ومظاهر الإثراء والترف.
يريد بعض علماء الدين أن يحتفظوا بمكاسب “العلماء ورثة الأنبياء”، لكنهم يستنكفون عن أن يكونوا بالفعل ورثة للأنبياء في دعواتهم للتوحيد الحق، المنافي لأي تأليه رمزي للحاكم، وفي قول الحق ونصرة المظلوم، والسعي لإقامة مجتمع العدل والفضيلة، ومقاومة الظلم والفرعونية والقارونية.
تبرز السلفية المدخلية عنوانا بارزا للتحول من “العلماء ورثة الأنبياء”، نحو ” العلماء جزء من الماكينة الإيديولوجية للسلطة والهيمنة”.
في ما يحدث في فلسطين المحتلة شواهد على هذا الانحراف، فقد انبرى علماء التوجه المدخلي، للقدح في المقاومة، من مدخل الدعم الذي تتلقاه من إيران وحزب الله “الرافضيين”، ولا فائدة من محاججتهم حول مسؤولية الحكام السنة في اضطرار حماس لقبول أو طلب المساعدة الإيرانية، بل فقط يمكن الاكتفاء بتذكيرهم بفتوى علماء السلفية الوهابية في جواز الاستعانة بالكافر لرفع ظلم المسلم لأخيه المسلم، بمناسبة غزو العراق للكويت، فكيف يجوز الاستعانة بالكافر ضد المسلم السني، ولا يجوز الاستعانة بالمسلم الشيعي لمقاومة الاحتلال الصهيوني؟
يهاجم السلفي المدخلي المقاومة الفلسطينية بسبب ما يدعيه خروجها عن ضوابط السنة، ودون أن تتحداه في الإتيان بالدليل عن انحراف المقاومة العقدي، تكتفي بطلب موقفه مما يقع في بلده من مواسم ترفيه ورقص وغناء، مما تعده مرجعيته في مرتبة الكفر، فيجيبك بأننا أمرنا بطاعة الحاكم، وعدم الخروج عليه، وتوقيره.
ورغم سخافة هذه الحجة التي يسهل بيان تهافتها شرعا وعقلا، تنبهه إلى التناقض في كلامه، فإذا كانت طاعة الحاكم المتغلب بالسيف واجبة، فإن حماس وفق هذا التبرير بدورها في مرتبة الحاكم المتغلب في غزة، مما يوجب طاعتها. (طبعا نحن لا نعتبر حماس متغلبة بالسيف، ولا نعتبر أصلا أن هذا الموروث من الفقه السلطاني له كفاية تفسيرية للسياقات المعاصرة).
إن السلفي المدخلي أقرب إلى أن يكون مرتزقا، يسهل عليه نقل البندقية من كتف إلى أخرى، فإذا كانت طاعة الحاكم المتغلب واجبة، فهذا يعني أو ولاءه ليس للحاكم في شخصه أو علمه أو تقواه، بل للسلطة التي يحوزها، فإذا انقلب عليه حاكم آخر، وحازها، فإنهم سيصطفون مع الجديد، ويخلعوا بيعة القديم.
أي منطق هذا؟ يحرم الخروج على الحاكم المتغلب، ويعتبر ذلك كفرا، ولكن إذا نجح الانقلاب، تحول “المتمرد” الكافر بخروجه عن ولي الأمر، إلى ولي أمر للمسلمين وجبت طاعته؟
ليس السلفيون المدخليون وحدهم في هذا التلاعب بالدين لخدمة مصالحهم، وتقديم التبريرات الشرعية للحاكم، بل ثمة أجهزة “علمائية” كثيرة، تقوم بهذه الأدوار إما لصالح الحاكم المحلي، أو لصالح دولة تقدم التمويل لهيئة دولية أو إقليمية للعلماء.
إن صنيعهم هذا، هو قريب مما يقوم به التكنوقراطيون، الذين لا رؤية لهم ولا مشروعا، بل يضعون خبراتهم التقنية لإنجاج وأجرأة أي مشروع، أو لتبرير سياسة واختيارات معينة، ولا يهمهم أن تكون الحكومة اشتراكية أو رأسمالية، أو محافظة، أو ليبيرالية، فلديهم جواب تقني يوافق الجميع، بل تجد التكنوقراطي يبرر سياسة ما، ثم هو نفسه بعد مدة يبرر سبب الاستغناء عنها.
يتحدث كثيرون بحسن نية أو لأغراض ما عن ضرورة أخذ الموقف الشرعي الديني بعين الاعتبار في أي سياسة داخلية أو خارجية، ارتبطت بالاقتصاد أو التعليم أو الثقافة، ولكن هل كل ما يقدمه علماء الدين والفقهاء “الموظفون” (تحتمل عدة معان) في أجهزة رسمية، أو الموالون للسلطة (وينطبق الأمر حتى على المقربين من الأحزاب) هو الموقف الشرعي المجرد، أم أنه فتوى “تكنوقراطية”؟ بمعنى أنه لا يبين الموقف الشرعي، بل يقدم الخبرة “الفقهية” لمن يطلبها، ويدفع مقابلها امتيازات.