العيد ما كاينش!

الأرقام التي أعلنها أمس الخميس 13 فبراير 2025 وزير الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، أحمد بواري، في الندوة الصحافية الأسبوعية للناطق الرسمي باسم الحكومة، حول وضعية قطيع الماشية، لا يمكن أن نتعامل معها بهدوء أو برودة.
إنها معطيات مخيفة وخطيرة تستوجب عقد المحاكمات الاستثنائية في حق من أوصلونا إلى هذا الوضع الذي يقترب من التهديد بانقراض البشر والبقر، ثم في حق من ظلوا يكذبون علينا كل سنة مع اقتراب عيد الأضحى، وقدّموا لنا أرقاما حول عدد رؤوس الماشية المتوفرة، والتي رددوا دائما أنها تفوق الطلب، وتبيّن الآن بتصريح حكومي رسمي أنها محض أكاذيب.
هذا ليس تعبيرا مجازيا ولا صيغة من صيغ المبالغة، بل هناك حاجة ملحة لفتح تحقيقات جنائية وعقد محاكمات في حق وزراء ومسؤولين وممثلي هيئات مهنية، لأن الأمر يتعلّق بكذب مفضوح غايته التغرير بالمواطنين البسطاء واقتيادهم نحو “الرحبة” حيث يتم سلخهم بدلا من البهائم، لتغذية دورة اقتصادية كاسدة بطريقة عتيقة وبدائية.
الوزير أحمد البواري قال إن “القطيع الوطني” تراجع بنسبة 38 في المئة مقارنة بسنة 2016، وعندما نعود إلى البلاغات والتصريحات السنوية التي أدلى بها الوزيران السابقان اللذان تعاقبا على هذا القطاع، وهما عزيز أخنوش ومحمد صديقي، لا نجد أي أثر لهذا التراجع، بل كانوا يتحدّثون دائما عن عرض يفوق الطلب، ووضعية مريحة ل”القطيع الوطني”، وحتى عندما بدأوا يقرّون بالتراجع في العامين الماضيين، فإنهم بالكاد يعترفون بانخفاض نسبته واحد أو اثنين في المئة.
هذه جريمة متكاملة الأركان (المادية والمعنوية)، لأن شعيرة دينية بالغة الأهمية وعالية التقدير عند المغاربة، باتت مهدّدة، ولأن غالبية المواطنين البسطاء أصبحوا محرومين من اللحوم الحمراء، وعندما بحثوا عن البديل في اللحوم البيضاء، باعتراف الوزير البواري، قفزت أسعار هذه الأخيرة تحت ضغط الطلب المرتفع والبنية الغامضة للسوق.
ومثلما عشنا في العام الماضي مشاهد مؤلمة لآباء وأمهات “تقطّعوا” واقترضوا وباعوا أثمن ما يملكون، كي يشتروا أضحية لم تعتبر الدولة أن من واجبها إعفاءهم منها بقرار لا يعوزه التبرير؛ نحن اليوم مقبلون على مشاهد أكثر إيلاما، ووضعية أكثر قسوة لسوق اللحوم الحمراء في القادم من الشهور.
يتحدّث الوزراء عن الجفاف كسبب رئيسي لكل ما يواجهنا من مظاهر الجوع والقحط، كأن دور ووظيفة الحكومات والمسؤولين هو تقدّم الصفوف لأداء صلاة الاستسقاء. بينما دور القائمين على التدبير هو التخطيط واتخاذ القرارات بما تعنيه من الاختيار من بين الممكنات، ومن ثم تدبير ما تم تخطيطه وتصحيح اعوجاجه وتقييمه والوصول به إلى نتيجة مرضية، أو الاستقالة عن الفشل والخضوع للمحاكمة والمساءلة عند التقصير.
لا حقّ لأي مسؤول في ترديد البكائيات التي يمكن لأي مواطن بسيط أن يبدع فيها أكثر منهم، ولسنا في حاجة إلى كل هذا البناء الدستوري والمؤسساتي والسياسي والإداري لكي نسمع البكائيات.
بعد تجاوز مسألة الأرقام الكاذبة التي قدّمت لنا طيلة الأعوام الماضية، على القائمين على التدبير أن يقدّموا الحساب عن ميزانيات دعم الأعلاف، كيف تم تدبيرها؟ ومن استفاد منها؟ وإذا كانت غير كافية، لماذا لم يتم الرفع من قيمتها في الوقت المناسب، واقتطاعها من ميزانيات الكماليات والترفيه والمواسم وولائم الغذاء والعشاء التي يُنفق عليها من المال العام؟
هناك ألف سؤال وسؤال يتعيّن على المسؤولين الجواب عليها بدل إلصاق كل شيء بالسماء والجائحة وأوكرانيا.
وبمناسبة الجائحة التي يقول المسؤولون إنها تسبّبت في هلاك قسم كبير من “القطيع الوطني”، هل نسيتم ما دبّجتموه في البلاغ الصحافي الذي سبق عيد الأضحى للعام 2021، أي في لحظة بداية الخروج من الجائحة؟
تعالوا نقرأ من بلاغ وزارة الفلاحة لتلك السنة:
• “العرض المرتقب من الأغنام والماعز لهذه السنة كاف لسد الطلب المؤقت بمناسبة عيد الأضحى…”؛
• “يقدر العرض المرتقب بـ8 ملايين رأس منها 6,5 مليون رأس من الأغنام و1,5 مليون رأس من الماعز؛ والطلب من أضاحي العيد يقدر بحوالي 5,5 مليون رأس منها 5 مليون رأس من الأغنام و500 ألف رأس من الماعز”؛
• “الحالة الصحية للقطيع الوطني جيدة عموما…”
ثم تعالوا نطلّ على بلاغ وزارة الفلاحة لعيد الأضحى عام 2022 (يونيو من تلك السنة):
• ” الحالة الصحية للقطيع الوطني جيدة على العموم”؛
• “عرض بحوالي 8 مليون رأس، ضمنها 6,5 مليون رأس من الأغنام و1,5 مليون رأس من الماعز”؛
• “6 مليون رأس من الأغنام والماعز المخصصة لعيد الأضحى 1443 تم ترقيمها وعملية الترقيم مستمرة”؛
• “242 ألف وحدة تسمين الأغنام والماعز مسجلة من طرف المصالح البيطرية للمكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية”؛
واصلوا القراءة، هذه أرقام بلاغ السنة الموالية، أي يونيو 2023:
• “العرض الوطني من الماشية المخصصة لعيد الأضحى 1444 (المقدر بـ 7.8 مليون رأس) كاف ويغطي بشكل كبير الطلب الذي يقدر بـ 5.6 مليون رأس”؛
• “تم تسجيل 214 ألف ضيعة لتربية وتسمين الأغنام والماعز المخصصة لعيد الأضحى”؛
ورغم اعتراف الوزارة في بلاغ 2023 لأول مرة بوجود خلل ما، فإنها صوّرت الأمر كمجرّد انعكاس للجائحة وموجة التضخم على الأسعار، ووعدت بالتخفيف من ذلك عبر فتح الباب أمام الاستيراد، ولم تعترف قط بوجود مشكلة اكتفاء ذاتي.
…
ماذا جرى مذاك لكل هذا “الخير”؟
وكيف أصبحنا نتحدّث فجأة عن تراجع مهول عدد رؤوس الماشية؟
هل “سرطنا” كل هذه الملايين من الأغنام والماعز بهذه السرعة أم داء العطب قديم ويعود إلى عهد أخنوش في وزارة الفلاحة؟
أين ذهبت أموال الدعم التي خصّصت لمستوردي المواشي؟
ومن الذي قدّم لنا الحساب عن فشل العملية وتحوّلها إلى “شحمة في ظهر المعلوف”، بما أن المستوردين عمدوا إلى تخزين ما استوردوه لبيعه في سوق اللحوم الحمراء وتركوا الناس تائهين في “الرحبة”؟
هناك مذنبون ما في هذه القصة، تماما كما هو الحال في موضوع الماء الذي سأعود إليه في مقال مقبل، لأن الكذب في موروثنا الثقافي يكون على الأموات وليس الأحياء.
والتعديل الحكومي الأخير لم يكن اعتباطيا، بدليل هذا الإحصاء الذي انطلق مباشرة بعد تعيين الوزير الحالي، أحمد البواري، لتصحيح المعطيات التي ظلّ يقدّمها كل من أخنوش وكاتبه العام الذي خلفه على رأس الوزارة، محمد صديقي، ويبدو أن الدولة نفسها لم تكن تصدّقها.
الأمر الوحيد الذي يُفلح فيه المسؤول الأول عن هذه الكوارث، وزير الفلاحة السابق ورئيس الحكومة الحالي عزيز أخنوش، هو تخراج العينين ومنطق “طارت معزة”.
الحكومة تبدو كما لو أنها نسيت أن العيد بمعناه الديني موجود في قلوب وضمائر المغاربة، بينما العيد بمعنى ذبح الأضاحي يتطلّب وجود حكومة تضمن شرطين اثنين:
• مواطن قادر على الشراء؛
• وماشية في حالة صحية وبوغرة كافية؛
بهذا المعنى لا نحتاج إلى أي اجتهاد، بل يكفي النظر إلى المعطيات الحالية بما فيها ما أعلنه الوزير البواري يوم أمس، لنقول جازمين إن العيد “ما كاينش”.
التوجّه نحو ممارسة شعيرة ذبح الأضاحي هذه السنة يعني شيئا واحدا: اقتياد المغاربة البسطاء من جديد نحو الرحبة ليتم سلخ ما تبقى لهم من جلد، من خلال إخضاعهم لسلطة المجتمع والضغط الأسري. والهدف من وراء ذلك ليس تعظيم الحكومة لشعيرة دينية، بل هو التحريك القسري للدورة الاقتصادية التي تعاني الجمود والكساد والغلاء والبطالة.
وبما أن الأمل في تطبيق المقتضى الدستوري المتمثل في ربط المسؤولية بالمحاسبة مقطوع، فإن الرجاء كل الرجاء في قرار ملكي عبر صفة إمارة المؤمنين، لتخليص المغاربة من هذه المسلخة التي تقودهم إليها الحكومة، وإعفائهم من إبادة مزدوجة، تطال ما تبقى من قدرتهم على الإنفاق، وما تبقى من “قطيع وطني”.