العثمانيون.. اهتمام متأخر بذكرى المولد النبوي
شهدت الدولة العثمانية، التي اتسمت بالتنوع الثقافي والديني الكبير، احتفالاً مميزًا بالمولد النبوي الشريف، لكنه مر بمراحل عدة، تميزت كل منها بطابع مختلف يعكس رؤية الدولة للعلاقة بين الدين والشعب.
في البداية، أخذت الاحتفالات العثمانية طابعًا رسميًا مغلقًا، حيث لم يكن المولد النبوي مناسبة يحتفل بها عامة الشعب بشكل موسع، بل كانت تُقام مراسم رسمية في مساجد محددة تحت إشراف السلاطين وكبار رجال الدولة.
وفي عهد السلطان عبد الحميد الثاني تحديدًا، اتخذ الاحتفال شكلاً مختلفًا، حيث كان يجتمع العلماء ورجالات الدولة في الجامع الحميدي للاحتفال بهذه المناسبة.
كانت الطقوس تبدأ في ليلة الثاني عشر من ربيع الأول، حيث يدخل السلطان المسجد وسط الحضور ويتلى القرآن الكريم، تليها قراءة قصة مولد النبي (ص) من السيرة النبوية.
تتلو ذلك قراءة كتاب “دلائل الخيرات”، وتتعالى أصوات المصلين بالذكر والإنشاد الديني. وفي صباح اليوم التالي، تأتي وفود من كبار المسؤولين لتهنئة السلطان، ما جعل المناسبة تبدو في إطار رسمي أكثر من كونها شعبية.
ورغم ما قد يبدو من مظاهر احتفالية، إلا أن المولد النبوي في العهد العثماني، وحتى أواخره، لم يكن احتفالًا شعبيًا واسع الانتشار. بل كان مقصورًا على النخبة، خاصة منها نخبة الدولة؛ حيث كان السلطان وحاشيته يجتمعون في القصر، ويتخلل الاحتفال تلاوة القرآن الكريم وخطبة دينية يلقيها أحد العلماء حول سيرة النبي (ص) وأخلاقه.
كان هذا الاقتصار الاحتفالي على ممثلي الدولة يعكس نوعًا من التباعد بين السلطة والشعب، مما جعل هذه المناسبات تبدو أقرب إلى طقوس سلطوية منها إلى احتفالات مجتمعية.
رغم ذلك، أظهرت الدولة العثمانية اهتمامًا رمزيًا بذكرى المولد النبوي، حيث جعلته يوم عطلة رسمية منذ أواخر القرن السادس عشر للميلاد.
كما ارتبطت هذه المناسبة بمبادرات إنسانية، حيث جرت العادة أن يتم الإفراج عن عدد من السجناء في هذا اليوم، مما أضاف بُعدًا إيجابيًا لهذه الذكرى، وإن بقيت الطقوس الاحتفالية في نطاق ضيق.
بحلول العام 1910، شهد الاحتفال بالمولد النبوي تحولًا ملحوظًا مع بدء الدولة في السماح بتجمعات شعبية محدودة للاحتفال بهذه المناسبة. جاءت هذه الخطوة في فترة متأخرة من عمر الدولة العثمانية، لكنها عكست محاولة لإعادة ربط الصلة بين السلطة والشعب من خلال المناسبات الدينية.
كانت الاحتفالات تبدأ بعد صلاة العشاء، حيث يتوافد الناس إلى ساحة مسجد السلطان أحمد أمام قصر الباب العالي، ويُستقبلون بعطر الورد، وتوزع عليهم الحلوى في أطباق فضية.
أضاف هذا التطور طابعًا شعبيًا جديدًا على الاحتفالات، وساهم في تحويلها إلى مناسبة اجتماعية إلى جانب كونها طقسا رسميا.
ولم تتوقف مظاهر الاحتفال عند حدود المسجد، بل استمرت الاحتفالات في القصور، حيث كانت تُقدم الضيافة للحاضرين، بما في ذلك “الشربة العثمانية” وعصير الليمون بالنعنع.
عكست هذه المظاهر انفتاحًا تدريجيًا من الدولة العثمانية على الاحتفالات الشعبية والدينية في آن واحد، في فترة شهدت فيها الدولة العديد من التحولات السياسية والاجتماعية.
مع انتهاء العهد العثماني وتأسيس الجمهورية التركية الحديثة على أسس علمانية صارمة، كان من المتوقع أن تشهد الاحتفالات الدينية انحسارًا. لكن ما حدث هو العكس، فقد واصلت الدولة التركية الجديدة الاحتفال بالمولد النبوي، بل أضافت إليه طابعًا جديدًا.
واللافت أن تركيا باتت تحتفل بالمولد مرتين في السنة: الأولى في الثاني عشر من ربيع الأول، والثانية في شهر أبريل/نيسان، حيث يُعتقد أن مولد النبي (ص) كان في 20 أبريل من عام 571 الميلادي.
ويعبّر هذا التوسع في الاحتفال بالمولد عن رغبة الدولة التركية في التوفيق بين العلمانية وتقاليدها الإسلامية، كما يمثل نوعًا من الاعتراف الشعبي والديني بهذه المناسبة التي تربط المجتمع بجذوره الدينية، حتى وإن كان ذلك في إطار مختلف عما كان عليه في الدولة العثمانية.