story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

العبودية بين الهنا والهناك

ص ص

قبل أيام، توصلت من الكاتبة العالية ماء العينين برواية موسومة بـ’أسود وأبيض’ لشقيقها الكاتب والمهندس مصطفى ماء العينين. انكببتُ خلال عطلة عيد الأضحى على قراءتها. وقد أقدمتُ على ذلك نظرا لصغر حجمها (119 صفحة من الحجم المتوسط)، ولأنها تمثل العمل الأول عند مؤلفها، إذ غالبا ما تغريني الأعمال الأولى بالقراءة، ممنيا النفس على الدوام بالعثور على عمل منفلت في سرده، متفرد في حكايته وأحداثه، ومتميز في كتابته.
بعدما انتهيت من القراءة، وبما أن الكاتب يقلب تاريخ العبودية وأدوارها في أمريكا، إذ يجعل السود سادة والبيض عبيدا، تبادر سؤال محير إلى ذهني: ماذا لو كان البيض قد سيقوا بالأغلال إلى أقبح أسواق النخاسة وعاشوا فعلا تجربة الرق والعبودية، كما عاشها السود في العالم كله في أحلك المراحل التاريخية للإنسانية الحديثة والمعاصرة؟ هل كان العالم سيشهد هيمنة مماثلة لما يمارسه الكائن الأبيض اليوم من غطرسة وتجبر؟ في الواقع، يرد هذا السؤال بشكل ضمني في رواية ماء العينين، لكن دون أن تقدم له جوابا واضحا، ولو أنها تفيد أن مآل الرق والعبودية الموت والزوال، مهما كان السيد.
سيتساءل القارئ، لا محالة، عن السبب وراء اهتمام ماء العينين بالعبودية في الولايات المتحدة الأمريكية، وليس في المغرب خصوصا، أو في أفريقيا عموما. السؤال هنا موجه إلى صاحب الرواية، إذ لا ينبغي للقارئ أن ينصب نفسه محله للإجابة. لكن بما أن القارئ مؤوِّل، فمن حقه أن يربط المسألة بأحداث تاريخية أو اجتهادات فكرية أو بحثية، من شأنها أن تساعد على لملمة تلابيب موضوع العبودية الذي ما يزال يحتاج- محليا على الأقل- إلى دراسات عميقة من زوايا متعددة، بغية كشف ما ينطوي عليه من عوائق وتعقيدات تحول دون تحقق حرية الإنسانية هنا تحققا مثاليا.
لقد حاول الكاتب المغربي شوقي الهامل، أستاذ التاريخ في جامعة ‘أريزونا’ الأمريكية، في كتابه الشهير ‘المغرب الأسود’، أن يطرق هذا الموضوع من زاويته الخاصة. ذلك أنه يدرس تجارب العبودية في المغرب على امتداد أربعة قرون (من السادس عشر إلى أوائل العشرين)، محاولا التعرف على الأدوار السوداء التي لعبها بعض المغاربة والمسلمين في تاريخ النخاسة والعبودية. كما يسعى في الكتاب ذاته إلى أن يكشف أثر الخطابات السياسية والدينية والأرباح الاقتصادية في رواج الرق، وكذا المؤسسات المختلفة التي ظلت تدعم هذا النوع من النشاط التجاري المخزي. لا شك أن قارئ هذا العمل سيصل إلى خلاصة عامة مفادها أن العبودية ظلت، طوال هذه القرون الأربعة، تمثل جريمة ضد الإنسانية يرتكبها جميع بني البشر، سواء كانوا بيضا أو سودا، متدينين أو ملحدين…
ومن ثنايا هذا التاريخ المشترك الأسود، ومن رواية ماء العينين المعكوسة، تخرج شخصية تاريخية جسدت العبودية والحرية في الآن ذاته، وقلبت مسار حياتها بطريقة خاصة فعلا. اشتهرت هذه الشخصية باسم مصطفى الزموري، ولُقّبت في المرويات التاريخية بـ’استيبانيكو’، وتناولتها روايات مغربية وغربية عديدة، من بينها ‘استيبانيكو’ لمحمد البوعبيدي، و’جزيرة البكاء الطويل’ لعبد الرحيم الخصار، و’استيبانيكو’ لـ’ستيفان ج. فيتشيو’. تعكس مسارات حياة هذه الشخصية انقلابات عدة، بين شاب حر في أزمور، وعبدٍ في إسبانيا وشواطئ أمريكا، قبل أن يتحرر من قيده ويكتشف الولايات المتحدة، بل وأن يصبح زعيم بعض قبائل الهنود في الغرب الأمريكي، حسبما ما تورده بعض الروايات التاريخية.
سيقودنا السؤال حول طبيعة اهتمامات رواية مصطفى ماء العينين، من حيث لا ندري، إلى تشابكات العبودية- ومن ثمة إمكانيات تحقق الحرية- بين الهنا والهناك، بين المغرب وأمريكا. سيقودنا إذا إلى هذا الموضوع المسكوت عنه؛ أي إلى حقيقة الجريمة الشنيعة المشتركة بين مسلمين ومسيحيين ومسؤوليتهم التاريخية عن اقتياد أناس أحرار من مجتمعاتهم الآمنة إلى أتون ضيعات ومزارع لم تعرف الشفقة والرحمة تجاه بشر لا ذنب لهم سوى أن بشرتهم سوداء.