الطبيب المسلوخ
ها نحن بلغنا “سطاد الوحش” وبتنا نسخّر قواتنا العمومية المفروض فيها حفظ النظام ومواجهة العنف والانحرافات، لتعنيف وتفريق فئة من نخبة شبابنا: الطلبة الأطباء الذين لم يعودوا يحملون من هذه الصفة إلا الاسم بعد انقطاعهم عن الدراسة والتدريب منذ قرابة عام كامل.
كل يوم إضافي تستغرقه هذه الأزمة، وكل ساعة تكوين وتدريب تضيع على قرابة 17 ألف من أطباء وطبيبات المستقبل، هي زيادة في رصيد الحكومة من الفشل والإجرام في حق المغرب والمغاربة.
أن يصل ملف مطلبي بسيط لجزء من طلبة المغرب إلى هذه الدرجة من الاحتقان والتصعيد والاضطرار للاعتصام والمبيت ليلا في العراء، ومن ثم تحريك القوات العمومية لتفريقهم، فهذا يعني أن ما كنا إلي وقت قريب نعتبره مجرد خطاب أيديولوجي أو “عدمي”، يكتسب قدرا كبيرا من المصداقية والصحة.
ما نعيشه اليوم من تخريب لمنظومة التكوين الطبي، التي ظلت إلى وقت قريب تصنّف ضمن النجاحات القليلة التي حققها المغرب منذ الاستقلال، بالنظر إلى جودة الكفاءات الطبية التي تخرّجها، يفوق مجرّد إصرار دولة على حفظ كبريائها وفرض تصوّرها ورؤيتها…
نحن اليوم أمام شبهات متعاظمة بخضوع القرار الرسمي للدولة لمصالح وأطماع لوبيات الرأسمال الخاص، وحمل قسم كبير من الطبقة المتوسّطة على اللجوء إلى الجامعات الخاصة أو الأجنبية، ومن ثم الانخراط في توفير “اليد العاملة” التي تحتاجها الاستثمارات الخاصة في المجال الطبي.
“بزاف” هذا الذي يحصل على مجرّد رفض مطالب إجرائية بسيطة، بما في ذلك قرار حذف السنة السابعة المشؤوم، الذي ومهما كانت له مبررات وإيجابيات، فإن عجز الحكومة عن تمريره بطريقة هادئة وبعد انخراط وقناعة المعنيين به، يعني أنه قرار فاشل.
نعم لا يمكن لنا أن نكوّن الأطباء كي تأتي دول أجنبية لتستفيد من خدماتهم بشكل مجاني، لكن لماذا لا ننظر قليلا إلى المرآة ونسأل أنفسنا لماذا يهاجرون؟
لماذا يهاجر الأطباء كما يهاجر المهندسون والدكاترة والتقنيون؟ بل لماذا يهاجر المتعلّمون كما يهاجر الأميون والمتسرّبون من فصول الدراسة والقاصرون؟
“حتى قط ما كايهرب من دار العرس” يقول المثل المأثور، والوضعية المادية التي تخصّصها دولتنا للأطباء تدعونا إلى الخجل من أنفسنا عوض محاولة تسييج حدود الوطن ومنعهم من الهروب منها عبر إجراء عتيق من قبيل حذف السنة السابعة.
لشباب اليوم ألف طريقة وطريقة للرحيل إن شاؤوا ذلك، والأولى بنا مساءلة أنفسنا حول هذا الهروب الكبير الذي نكاد معه نردد مقوله “للي بقا الأخير يطفي الضو”.
إذا كان نظام ست سنوات سيحرم أبناءنا من متابعة التكوين في بعض الأنظمة، الفرنكفونية بالخصوص، فإن الصراع الدولي حول العقول والكفاءات سيفتح لهم ألف طريق بديل إن كان المانع الوحيد من الهجرة هو تقليص سنوات الدراسة.
خلال زيارتي الأخيرة إلى سريلانكا، استمعت إلى كثير من شكاوى المسؤولين والأكاديميين والصحافيين، من النزيف الحاد الذي عرفته البلاد في السنوات الأخيرة بفعل أزماتها المتلاحقة، حيث تفرّق أطباء البلاد وممرضيها بين الوجهات الأنغلوفونية مثل إنجلترا وأستراليا، وقفزت اليد العاملة التقنية المؤهلة نحو الهند ودول الخليج وإسرائيل.
وبتعبير أستاذ جامعي ومدير أحد المراكز البحثية، فإن هؤلاء المهاجرين سيبدؤون في تحويل المساعدات المالية لأسرهم، وهذا أمر جيّد، “لكّن الآباء والأمهات سيموتون بعد حين ولن تعود تلك العقول نهائيا”.
صادفت يوم الاثنين الماضي وأنا أغادر بيتي صباحا مصطحبا بنتاي نحو مدرستهما الابتدائية، جارا لي يهمّ بالانطلاق نحو كلية الطب رفقة ابنته التي نجحت في مباراة كلية الطب قبل أسابيع، وكلّه تساؤلات وحيرة حول مشاعرها وهي تلتحق بحياتها الطلابية في ظل ظروف الاحتقان هذه.
اكتفيت بطمأنته إلى أن تدخل مؤسسة وسيط المملكة سيؤدي إلى حل الأمة دون شك، اعتقادا مني أن للدولة عقل تهتدي به في النهاية إلى تجاوز العقبات الشخصية، لنستيقظ اليوم على مشاهد التدخل الأمني لتفريق اعتصام الطلبة بالقوة.
هذا ما جناه علينا تنطّع ميراوي وغموض آيت الطالب وانسحاب أخنوش وعجز النقابات والأحزاب والتنظيمات المهنية للأطباء، عن تحريك ساكن أمام مشهد الافتراس الدائر أمام أعينهم.
استمرار أزمة طلبة كليات الطب في المغرب يطرح أسئلة كبيرة تتعلّق بالنظام التعليمي، والقطاع الصحي، والاستقرار الاجتماعي وما تأخذنا إليه هذه السياسات المرتهنة لحسابات رأسمالية جشعة.
وتتحمّل الإدارات الجامعية السلبية المستسلمة لمنطق صعود الجبل الذي تعتنقه الحكومة، ووزارة التعليم العالي ووزارة الصحة مسؤولية كبيرة في إدارة هذه الأزمة.
غياب الحوار الفعّال والتواصل المستمر بين هذه الأطراف والطلبة هو أحد العوامل الرئيسية التي ساهمت في تفاقم الوضع. الإدارات الجامعية مطالبة بتحسين ظروف التدريب وضمان أن يتمكن الطلبة من تلقي تكوينا جيدا ومتواصلا.
هؤلاء جميعا مذنبون ومسؤولون عن هذا الهدر الذي يمسّ المال العام وجودة التكوين الطبي وطبيعة الخدمات الصحية التي تعدنا بها حكومة الدولة الاجتماعية المفترى علينا بها.
هذا كل ما كان ينقصنا: أن توضع مصائرنا ومستقبل صحتنا بين أيدي أطباء مقهورين و”مسلوخين”، بعدما شمل التدخل الأمني لليلة أمس حتى أولياء أمور الطلبة…
وكّلنا عليكم الله!