story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الصحراء وفلسطين

ص ص

هناك حركة أسرع من المعتاد تحت الكثبان الرملية للصحراء، والرياح تجري عموما في صالح المغرب وقضيته الوطنية الأولى.
هكذا يمكن تلخيص الصورة بعد تجميع أطرافها، من زيارة المبعوث الأممي الأخيرة إلى موسكو إلى طبيعة الشخصية التي اختارتها واشنطن كسفير جديد لها إلى الجزائر، مرورا ببوادر تزحزح الموقف الفرنسي عن حياده السلبي والماكر، وثبات الموقف الإسباني الذي اجتاز بنجاح اختبارات الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة واستنفاد أوراق الضغط الجزائرية على مدريد دون نتيجة.
لا شك أن المتابعين لملف الصحراء يدركون أننا أمام واحدة من اللحظات النادرة التي يشهد فيها الموضوع تحركا واختراقات في جميع المحاور، من واشنطن إلى بريتوريا مرورا بموسكو وباريس ومدريد والجزائر.
سنترك المحطة الأمريكية إلى نهاية هذه القراءة السريعة في التحركات الجارية، باعتبارها مركز التحكم الأساسي في خيوط الملف حاليا، ولنبدأ من موسكو. هذه الأخيرة استقبلت قبل يومين المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة، الإيطالي سيتفان ديمستورا، والذي يبدو مصرا على المضي في المسار الذي رسمه لمبادرته المنتظرة، والتي تكشفت بعض معالمها بزيارته الأخيرة إلى جنوب إفريقيا.
المتحدث الرسمي باسم الأمين العام للأمم المتحدة استعمل العبارة نفسها التي استعملها في محطة بريتوريا، للإعلان عن المحطة الروسية في تحركات المبعوث الشخصي: “بدعوة من الحكومة”.
أي أن كلا من قطبي المحور المتحالف أو القريب من الجزائر، روسيا شمالا وجنوب إفريقيا جنوبا، لمسا في تحركات دي ميستورا ما يستدعي رفع درجة الاتصال من البعثات الدائمة في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، إلى المستوى الحكومي. والصيغة نفسها جرت في العاصمتين: لقاء أولي مع وزير الخارجية، يليه اجتماع مع مسؤول ثان في الوزارة، أي أن لهذه التحركات مستوى سياسي رفيع وآخر عملي دقيق، وبالتالي هناك خطوة جديدة في الأفق تتطلب الدعم السياسي والتحضير العملي.
هذه التطورات تؤكد ما سبق أن كشفته لنا مصادر خاصة، من توجه المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة نحو طرح مبادرة جديدة، تنطوي على تزكية للمقترح المغربي بمنح الصحراء حكما ذاتيا، وهو ما يفسر الرهان الدبلوماسي المغربي القوي على انتزاع اعتراف بأهمية المبادرة من جل العواصم المعنية أو المؤثرة في النزاع.
المبادرة التي يرتقب أن يكشفها دي ميستورا قريبا، تستدعي الحصول على دعم أو تفهّم من العواصم القريبة من الطرح الانفصالي-الجزائري، مثل موسكو وبريتوريا، لكنها لا تخلو من مخاطر انزياحات محتملة بالنسبة للمغرب، وهو ما يفسّر الانزعاج العلني الذي عبرت عنه الدبلوماسية المغربية، لدرجة تلويحها بسحب الثقة من المبعوث الأممي، بعد زيارته لجنوب إفريقيا.
في أوربا تبدو التسويات ماضية في طريقها بثبات: مشاريع الطاقة والمبادلات التجارية تحقق التوازن بين الجناحين الألماني والبريطاني، وهما الفاعلان الثانويان تاريخيا في النزاع، والمتمتعان بقدرات كبيرة على التشويش والإزعاج حين لا يكون رضاهما كاملا عن حصتيهما من المصالح في المجال المغربي. بينما يبدو القلب الأوربي في هذا الملف سائرا نحو ضبط إيقاع دقاته بشكل متناسق بين “البطين” الإسباني ونظيره الفرنسي.
فكما أكد ذلك مقال حديث لجريدة “لوموند”، تبدو باريس عازمة على العودة من رحلتها الفاشلة نحو الجزائر، بعدما تبيّن لها أن علاقاتها بالدولتين المغاربيتين الأساسيتين لا يمكن أن تخرج عن توازنها التاريخي، مع ضرورة الخضوع لميزان القوة الجديد الذي بات يميل إلى واشنطن ومن خلالها الموقف المغربي.
مصادر قريبة من دوائر النشاط الدبلوماسي الفرنسي في الرباط، تؤكد وجود استعداد لتعديل الموقف الفرنسي بشكل يقرّبه من الموقف الإسباني المتقدم في دعم مقترح الحكم الذاتي، مقابل “دفتر تحملات” تقول المصادر نفسها إن وزير الخارجية الفرنسي ترك بنوده الكبرى بين أيدي المسؤولين المغاربة، تتقدمه حصص من الكعكة الاستثمارية المرتقبة في المغرب استعدادا لتنظيم مونديال 2030.
أما الفاعل المركزي والأساسي في هذا النزاع حاليا، أي الولايات المتحدة الأمريكية، فيواصل العمل على تنزيل رؤيته الخاصة بتأهيل المنطقة للانخراط في مجاله الحيوي الجديد الآخذ في التشكل، بحرص شديد على عدم انفراط عقد التوازن. فمن جهة جاء قرار اختيار جوشوا هاريس، المسؤول الرفيع في الخارجية الأمريكية الذي قام بتقريع الحكام الجزائريين قبل أسابيع في قلب عاصمتهم، لحمل جارتنا الشرقية على الانضباط للاختيارات الجديدة المرسومة للمنطقة، والتي لا تحتمل تصعيد النزاع أو إدامة جموده، وفي المقابل حرصت الإدارة الأمريكية على إعلان مواصلة تعليقها خطوة فتح قنصلية في مدينة الداخلة، كما وعدت بذلك بمناسبة توقيع الاتفاق الثلاثي مع كل من المغرب وإسرائيل.
بالمناسبة، هل تستقيم قراءة المشهد بهذا الشمول دون استحضار المعطى الإسرائيلي؟
لا أعتقد أن التحليل الذي يزعم الموضوعية واستحضار المعطيات بشكل مستقل عن القناعات الذاتية، يسمح بذلك.
المعطى الإسرائيلي جزء من لوحة قراءة العلاقات المغربية الأمريكية، ليس اليوم أو بالأمس القريب، بل منذ عقود سابقة على تأسيس الكيان الإسرائيلي أصلا في فلسطين، لأن الورقة اليهودية كانت المبرر الرسمي لحضور الولايات المتحدة الأمريكية، ووساطتها في مؤتمر الجزيرة الخضراء الشهير الذي حسم تقسيم كعكة النفوذ بين الأوربيين قبل أكثر من قرن.
خطوة المساعدات المغربية الأخيرة التي وصلت إلى فلسطينيي غزة والقدس، إلا جانب مواقف الإدانة الرسمية لجرائم إسرائيل، تبدو بداية مشجعة لإعادة توجيه السياسة الخارجية للمغرب في هذا المجال، بما يحمي المصالح الوطنية دون أن يسمح لتيار “كلنا إسرائيليون” بأن يجرفنا بتلك الطريقة المهينة التي أرادها البعض.
أهم ما في هذه المراجعة هو هذا التعديل الجاري في كفتي الميزان، وإن بشكل بطيء، عبر القبول باستمرار الاحتجاجات الشعبية ضد “التطبيع”، بدل التحريم الذي جرى برز عقب الاتفاق الثلاثي.
أي أن قناعة جديدة تترسخ تدريجيا، بألا ضرورة لاختيار بين الصحراء وفلسطين.