الصحراء تمتحن الأحزاب
عقد مستشارو الملك، فؤاد عالي الهمة والطيب الفاسي الفهري وعمر عزيمان، صباح أمس الاثنين 10 نونبر 2025، اجتماعا مع قادة الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان، لدعوتها إلى تقديم تصوّراتها حول كيفية تحيين وتفصيل المقترح المغربي بمنح الصحراء حكما ذاتيا.
ولا يقتصر الأمر على الأحزاب السياسية، فقد علمتُ من مصادر متقاطعة، أن المؤسسات الدستورية بدورها تلقت اتصالات من الديوان الملكي تدعوها إلى تقديم تصوّراتها، من جهة حول تفاصيل المقترح المغربي وكيفية تطويره، ومن جهة ثانية تصوّراتها حول وضعها داخل إطار الحكم الذاتي، وكيف يمكن أن تكون علاقتها بمنطقة الحكم الذاتي ومؤسساتها المحلية.
والحقيقة أن الدولة المغربية ليست الوحيدة التي تستطلع بشكل واسع آراء النخب والمختصين، كما جرى في مقرّ وزارة الخارجية الجمعة الماضي مع عدد من الأساتذة الجامعيين (بشكل مغلق)، ويجري يوميا تقريبا في وزارة الداخلية، بل إن الأدوات الدبلوماسية الأجنبية، خاصة منها الأوربية، عرفت منذ صدور قرار مجلس الأمن الدولي الذي اعتمد الحكم الذاتي إطارا لحل النزاع، يوم 31 أكتوبر 2025، (عرفت) نشاطا يوميا استثنائيا، لمحاولة سبر آراء الشارع والنخب المغربيين، ورصد اتجاهات الرأي بهذا الخصوص.
نعود إلى أحزابنا السياسية، والتي غابت طويلا عن هذا الملف، لدرجة كدنا نعتقد معها أنها استقالت من وظيفتها فيه، باستثناء المهرجانات والخطب التي لم تكن سوى صدى لاختيارات وتوجهات الدولة. وها هي اليوم مطالبة بطرح تصوّراتها وتحمّل مسؤولياتها في الاقتراب من المناطق الملغومة من هذا الملف، والاضطلاع بأدوارها في تسليط الضوء على مناطق الظل وتنبيه الدولة إلى المخاطر المحتملة.
إنه امتحان وطني وموحّد هذا الذي ستخوضه الأحزاب السياسية على مدى مهلة أسبوع إلى أسبوعين التي مِنحت لها من طرف الديوان الملكي، والتي ينبغي لها أن تجيب خلالها عن أسئلة لا يمكنها الاكتفاء معها بالارتجال، بل عليها أن تُخرج ما لديها (إن كان لديها)، لتساعد الدولة في إدارة هذا الملف، ومن بين أبرز هذه الأسئلة:
كيف يمكن للأحزاب السياسية القيام بوظيفتها الدستورية الأولى أي تأطير المواطنين وتمكينهم من إدراك التحوّل الذي جرى في هذا الملف الوجودي، وإخراجهم من منطق خاطئ ما زال البعض، بمن فيهم نخب إعلامية وأكاديمية، يعتبر ما جرى انتصارا حصل بفضل “صفقة” مع الإدارة الترامبية في واشنطن. والحال أن حل الحكم الذاتي مطروح أمريكيا منذ منتصف الثمانينيات، كما تؤكد وثائق من الأرشيف الذي كان سريا، وإرهاصات تفعيله الأولى ظهرت منذ التسعينيات، وأن المكسب الدولي للمغرب تحقق داخل إطار الشرعية الدولية، وبمساهمة كبيرة في تطويره آليات الأمم المتحدة لتساعد في حل النزاع بدل إدامته؟
على الأحزاب السياسية أن تقدّم تصوّراتها حول ذاتها هي أولا في ظل تطبيق الحكم الذاتي المرتقب في الصحراء. هل ترى في نفسها القدرة على تحويل فروعها إلى أحزاب جهوية أم هناك خيارات أخرى في تأطير الحقل السياسي المحلي الذي سيقوم بانتخاب برلمان وحكومة محليين، وفي الوقت نفسه المشاركة في الانتخابات البرلمانية الوطنية لعضوية المؤسسة التشريعية في الرباط؟ وهل تتصوّر إصلاحا شاملا لوضعية الجهوية واللامركزية في مجموع مناطق المغرب أم إن الأمر ينبغي أن يقتصر في البداية على تثبيت حكم ذاتي “حقيقي” وناجح في الصحراء؟ وما هي تصوّرات الأحزاب السياسية لبنية البرلمانين، الوطني والمحلي، والعلاقة بينهما؟
كيف تتصوّر الأحزاب السياسية المغربية، وهي التي يفترض أنها راكمت تجربة ميدانية طويلة عبر الاستحقاقات الانتخابية المتعاقبة، شكل وهيكلة البرلمان المحلي لمنطقة الحكم الذاتي؟ من هي الهيئة الناخبة؟ وكيف يمكن التعامل مع البنيات الاجتماعية وفقا لخصوصياتها لكن دون السقوط في تمييز مخلّ بالحقوق الدستورية المكفولة لجميع المواطنين؟ هل يمكن الاستمرار في اعتبار المغاربة الذين ولدوا في الصحراء وينحدرون من آباء وأمهات أتوا من جهات أخرى من الوطن، “غرباء” بأي شكل من الأشكال عن مجالهم الترابي؟ وهل ما زالت سجلات الإحصاء الإسباني والاعتبارات القبلية صالحة لمغرب ما بعد 2025؟
علينا أن نسمع رأي الأحزاب السياسية في الترتيبات الانتقالية التي يفرضها تطبيق مقترح الحكم الذاتي في الصحراء. هل علينا العودة إلى مسار تحديد الهوية لفرز من ينحدرون فعلا من أقاليم الصحراء من بين سكان مخيمات تندوف؟ وما هي الآليات الدولية ل”تحديد مصير” الآخرين ممن ينحدرون من موريتانيا أو مالي أو باقي دول الساحل أو الجزائر نفسها؟ وماذا سيكون خيارنا إذا قرّر جزء أو أغلبية الصحراويين المنحدرين فعلا من أقاليمنا الجنوبية تفعيل مساطر نيلهم للجنسية الإسبانية، إذا كانوا ممن تم إحصاؤهم من طرف مدريد قبل خروجها من الصحراء؟
ما طبيعة وصلاحيات السلطة الانتقالية التي يتحدّث عنها المقترح المغربي قبل الشروع في تطبيق الحكم الذاتي في الصحراء؟ ألا ينطوي الأمر على خطورة تتمثل في فقداننا للسيطرة المباشرة قبل ترسيم الوضع السيادي للمغرب في الصحراء بشكل نهائي بقرار للأمم المتحدة، بما أن هذه السلطة الانتقالية سيقيمها، في الغالب، قرار آخر لمجلس الأمن الدولي؟ ما هي الاحترازات والاحتياطات اللازمة في هذا السياق؟
هل لأحزابنا السياسية تصوّرات عملية حول كيفية تدبير عملية نزع سلاح جبهة البوليساريو، والعفو عن مقاتليها، واستقبال من تقررت عودته منهم، وإدماجهم في الحياة العامة المغربية بعدما ولدوا وتربوا وتدرّبوا على محاربة كل ما هو مغربي؟ هل يمكن لهذه الأحزاب السياسية أن تطرح مبادرات وأفكار مبتكرة لإدارة هذا الملف الشائك؟ وكيف تقترح أن يتم الإشراف عليها؟ هل من دور محدد للهلال الأحمر المغربي والصليب الأحمر الدولي؟ وما هي الاحتياطات اللازمة لمنع تدفق السلاح “الانفصالي” نحو أسواق غير مهيكلة للجريمة العابرة للحدود والإرهاب؟
كيف ينبغي منع تحول هذا النزاع من مشكلة خارجية أساسا، إلى مشكلة داخلية بالدرجة الأولى، من خلال إثارة حفيظة جهات ومناطق أخرى من المغرب؟ وضعية النزاع مع الخارج وخوض حرب عسكرية، سواء منها الحرب الساخنة أو الباردة، كانت تبرّر بعض المعاملات التفضيلية تجاه أقاليم الصحراء، فكيف يمكن إقناع مغاربة الشمال والشرق والوسط بالبنود الاقتصادية للحكم الذاتي؟ هل سيكون من السهل إقناعهم بتوجيه الثروات المحلية للصحراء لخزينة حكومتها المحلية والزيادة فوقها بدعم مالي واقتصادي من المركز، أي من ضرائب باقي المغاربة؟
ما هي طبيعة العلاقة الممكنة بين الرباط وجهة الحكم الذاتي؟ ثم بين مندوب الدولة الذي سيتولى القيام بالوظائف السيادية التي ستبقى بين يدي الدولة، من دفاع وسياسة خارجية ورموز سيادية، ورئيس الحكومة المحلية المنتخب مباشرة من طرف برلمان الجهة؟ ما شكل وطبيعة هذه المؤسسة أو الشخصية التي يمكنها تمثيل الدولة وحمل صلاحياتها السيادية في منطقة الحكم الذاتي، في الوقت الذي لا يقوم بهذه الوظائف مركزيا سوى الملك شخصيا؟ هل يمكن التفكير في إحياء مؤسسة “خليفة السلطان”؟ أم لأحزابنا الوطنية تصوّر آخر؟
أمام الأحزاب السياسية مهلة أسبوع إلى أسبوعين، كما حدّدها الديوان الملكي، للجواب عن هذه الأسئلة وأخري عديدة، مع إمكانية الاستعانة بتقنية “الكتاب المفتوح” وما تلقّته من دروس طيلة خمسين عاما مضت.
ما سيصنع الفرق بين أجوبة الأحزاب هو مستوى الجدية والمواظبة والتركيز في القضية خلال هذه العقود الخمسة.
عند الامتحان، يُعزّ الحزب أو يُهان!