الصحافَة.. “كالمَيِّت بين يَديْ غَسَّالِه”
لا تكاد في بلد كالمغرب تبني قناعة تجاه أي شيء حتى تسقط فوق رأسك. نعيش باستمرار قابعين في منزلة بين المنزلين كـ”أصحاب الأعراف”، الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فقعدت بهم سيئاتهم عن دخول الجنة، وتخلّفت بهم حسناتهم عن دخول النار، فوقفوا على السور “حتى يقضي الله فيهم”.
ننغمس في “حرية جزئية” تحلّق فوق رأسها روح السلطوية المُتَوَثِّبة للتضييق. فبعد عفوٍ ملكي عن صحافيين معتقلين، كانت الأمنيات أن يعْقب ذلك انفراجةٌ، قبل تأتي إدانة ثقيلة لصحافي مهني لتثير في النفوس تشكّكا، وقد جرت متابعته بالقانون الجنائي عن محتوى سمعي بصري يتضمن إخبارا ورأياً.
ويبدو أنه لم يكن كافياً الحكم على الصحافي حميد المهداوي بالسجن سنة ونصف نافذا و150 مليون سنتيم تعويضاً للوزير عبد اللطيف وهبي، حتى صرّح رئيس وحدة قضايا الصحافة برئاسة النيابة العامة حسن فرحان ليُعْلِمنا، في نوعٍ من التفسير ( حتى لا أقول التبرير)، أن القانون حدّد “نطاق ممارسة الصحافة الذي يسدل عليها الحماية القانونية”، قبل أن يذكر أنّ “جميع المنشورات الرقمية التي لا تتوفر فيها شروط الصحافة الإلكترونية، وفق الشكل الذي حدده قانون الصحافة والنشر، فهي تخرج من مجال تطبيق هذا القانون وتخضع لأحكام القانون الجنائي متى تضمّنت تلك المنشورات أفعالا تقع تحت طائلة هذا القانون”.
وأراد رئيس وحدة قضايا الصحافة برئاسة النيابة العامة أن يُكرّس، وهو يركّز على “الشكل/ الدعامة” لا “الوظيفة” و”الصفة”، لمعطى أنّ “العمل القضائي، سواءٌ في محاكم الموضوع أو على مستوى محكمة النقض، دأب على اعتبار أن ما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي والفضاءات المفتوحة يندرج في إطار النشر الشخصي الذي يخضع لأحكام القانون الجنائي (..) ولا يمكن أن تسري عليه أحكام قانون الصحافة والنشر”.
بعيداً عن التدقيقات القانونية التي يجب أن يتصدّى لها أهل الاختصاص. ما الذي يريد رئيس وحدة قضايا الصحافة برئاسة النيابة العامة إيصاله للصحافيين؟
هي رسالة شديدة الوضوح: حساباتكم في شبكات التواصل منفصلة تماما عن مهنة الصحافي، وأيّ تعبير عن الرأي أو إخبار فيها لا تسري عليه أحكام قانون الصحافة والنشر، ولن تُحاكموا به. ونقطة إلى السطر.
لست خبيرا قانونيا، لكنّي أدرك أن النيابة العامة لا يجب أن تحتكر تفسير القانون، ولا أن تتحجّج بكلام عام عن “سوابق قضائية عديدة في مختلف درجات التقاضي” لترمي في وجوه الصحافيين هذا الكلام الثقيل وهم يرون مساحة جديدة يجري قضمها.
بدايةً، هل بقِيَ من لزوم لأن نُذَكِّر كل مرّة أنه ليس غرضَ الصحافي أن يكون فوق القانون، وأنّ حقه في التعبير عن الرأي أو الإخبار ليس غطاءً لمخالفة القانون أو انتهاك حقوق الغير، مادام مطوّقا بالمسؤولية في مقابل الحق، وبمقتضيات المهنة وأخلاقياتها. لكن سيكون مفيدا السؤال في المقابل: هل نسنّ القوانين ليكون الصحافي في حالة خطر كامنٍ ودائمٍ، كمن يمشي في حقل من الألغام التي يمكن أن تنفجر فيه عند أي خطوة خطأ ( في مهنةٍ معجونة بماء احتمال الخطأ)، حيث يكْمُنُ له السياسي والقانوني والشرطي ورجل الأعمال وأيّ أحدٍ منتظراً أن تَزِلَّ قدمه في أرض الإخبار والرأي ليُحاكم بغير قانون الصحافة؟
نقاش علاقة الصحافي بشبكات التواصل الاجتماعي متشعّبٌ، وهو قيد التدقيق المستمر من منظّري هذه المهنة في زمن التواصل المحموم والجارف، وسيبقى مثيرا وخِلافياً.
وكثير من المرجعيات تعتبر حسابات الصحافي في شبكات التواصل امتداداً لوظيفته، وعلى هذا الأساس تُعاقِب مؤسساتٍ مرجعية صحافيين على خلفية منشورات في حساباتهم الخاصة تعتبرها تخالف لسياساتها التحريرية. بل إن مؤسسات في المغرب، وبعضها رسمي، تُلزم صحافييها بالتقيّد بمعاييرها خلال تدوينهم.
وهذا المذْهَبَ في اعتبار حسابات الصحافيين امتداداً لوظائفهم لا يمكن أن نُحْسِن به الظن ولا نفهمَ أنه محكومٌ بإرادة التضييق، إلى حدّ أن تطرد أو تعاقب مؤسساتٌ إعلامية صحافيين لأنهم شاركوا قناعات معينةً اعتبرتها المؤسسات تخالف سياستها التحريرية، كما حدث لصحافيي “دويتشه فيله” و”بي.بي.سي” وغيرهما.
وهذا المذهبُ يقفُ على النقيض من مذهبٍ آخرَ يعتبر النشر في حسابات التواصل “شأناً خاصاً” يمارسه الصحافي منفصلاً عن وظيفته، ما يعني بالتبعية محاكمته خارج قانون الصحافة والنشر، مثلما يفسّر رئيس وحدة قضايا الصحافة برئاسة النيابة العامة.
وإنْ كان المذهبان متناقضان، فإنهما يستهدفان، على ما أفهم، نفس الغاية: القضْم من مساحة تعبير الصحافي. فيكون التضييق الأولُ بإعمال عين الرقيب على الصحافي بشأن ما ينشره في شبكات التواصل وإمكان معاقبته إن خالف السياسة التحريرية للمؤسسة، على قاعدة وَصْلِ الصفة المهنية بالحسابات في شبكات التواصل. أما الوجه الآخر للتضييق، فيعمد إلى قاعدةٍ مخالفةٍ تقول بالفصْل، إذ تعتبر هذه الحسابات فضاء نشر شخصي غير مشمول بقانون الصحافة والنشر.
وإنْ كان في الأمر إفادة، وأنا أكتب هذه المقالة، نشرت وكالة رويترز، العريقة والمرجعية في الممارسة الصحافية، عصر الخميس 14 نونبر، عواجلَ صحافية منسوبةً إلى الصحافي الإسرائيلي باراك رافيد بصفته مراسلا لموقع أكسيوس الأميركي، نقلا من حسابه في موقع X للتواصل الاجتماعي مباشرةً، دون أن يكون خبره حينها منشورا في موقع مؤسسته. هنا اعتبرت رويترز الحساب الشخصي للصحافي امتداداً لوظيفته، بدليل أنها أشارت إليه بصفته: “مراسل موقع أكسيوس”.
وإنّي، من صميم انشغالي بالحريّة أساساً، ودون استغراق في تدقيقات وتفريعات قانونية ليست من وَكْد هذا المقال ولا من اهتمامه، أناصِر فكرة التوسّع في أن يشمل تفسير قانون الصحافة والنشر أي شبهة مخالَفة للقانون قد يرتكبها الصحافيون المهنيون على شبكات التواصل. فلا معنى لمتابعة صحافيٍ مهني حائز للصفة القانونية بالقانون الجنائي بناءً على رأي أو إخبار يبثّه للجمهور، ويقع ضمن مسؤوليته في خدمةِ المجتمع عبر الإخبار والتعليق.
بل إن قانون الصحافة والنشر في قسم العقوبات يرتّب جزاءات على من قام بـ”نشر أو إذاعة أو نقل خبر زائف أو ادعاءات أو وقائع غير صحيحة أو مستندات مختلقة أو مدلس فيها منسوبة للغير إذا أخلت بالنظام العام أو أثارت الفزع بين الناس، بأية وسيلة من الوسائل، ولاسيما بواسطة الخطب أو الصياح أو التهديدات المفوّه بها في الأماكن أو الاجتماعات العمومية، وإما بواسطة المكتوبات والمطبوعات المبيعة أو الموزعة أو المعروضة للبيع أو المعروضة في الأماكن أو الاجتماعات العمومية، وإما بواسطة الملصقات المعروضة على أنظار العموم، وإما بواسطة مختلف وسائل الإعلام السمعية البصرية أو الإلكترونية وأية وسيلة أخرى تستعمل لهذا الغرض دعامة إلكترونية”. (القانون رقم 88.13 المتعلق بالصحافة والنشر، 2016/ ص 13).
فكيف يجوز أن نغمض العين عن كل هذه “الرحابة” ( التي تشمل حتى الصياح) في منطوق هذه المادة لنقول إنها لا تشمل الصحافيين، وأن ما يكتبونه في شبكات التواصل ( باعتبارها دعامة الإلكترونية) لا يخضع لقانون الصحافة والنشر؟.
وإن من يُضيّق تفسير مدلول (الدعامة) الواردة في المادة الثانية من القانون التي تشرح ما هي (الصحافة) وتورد نصّاً: “(..) أو بأية وسيلة أخرى كيفما كانت الدعامة المستعملة لنشرها أو بثها للعموم”، يصطدم بالتوسّع الوارد في المادة 72 الواردة أعلاه.
ثم، كيف يجوز محاكمة المحامي والطبيب والمهندس بقانون الصحافة عندما يبثّ أو ينشر محتوىً للجمهور عبر الصحافة، ونرفض، في تفسيرٍ مُتعسّفٍ من وجهة نظري، أن يُحاكم بنفس القانون الصحافي المهني، عند وجود شبهة مخالفة للقانون، خلال نشره محتوىً صحافياً على “دعامة” شبكات التواصل؟.
قصارى القول
الصحافي ليس “كالميّت بين يديْ غَسَّالِه”، تحاسبه المؤسسة على ما يكتب في حساباته باعتبارها امتداد لوظيفته، وتلاحقه النيابة العامة بالقانون الجنائي على أساس أن حساباته ليست امتدادا لصفته. الصحافي ضميرٌ، وفي أي “دعامة” حاملةٍ للمحتوى ينشر فيها أفكاره وأخباره يبقى صحافياً مُلزماً بأخلاقيات المهنة والقوانين.
وإن كان الصحافي رفيقاً مزعجاً في الطريق إلى الديمقراطية، فإنه “واجبُ الوجود”، ويُفترض أن يتمتّع بأقصى حماية ممكنة صوناً لـ”الضمير” الذي يشكّل أساس ممارسته الصحافية، لا أن نُنْفق جهداً في تفسيرات وتبريرات تدفع نحو مزيدٍ من انكشافه، خاصة في سياقٍ لا نزال نسير فيه نحو الديمقراطية حَبْواَ وبخطوات مُتثاقلة. وأن نخطئ التصرّف في الحق في التعبير ونتعلّم، خير من أن نستغرق في حالة من الخوف والصمت.