الشعب هرب!
قال الفنان الساخر ‘بزيز’ في أحد اسكتشاته الساخرة إن الشعب المغربي كله سيهاجر، وستضطر الحكومة إلى البحث عن شعب بديل، لكنها لن تجد واحدا أفضل من المغاربة.
تراه كان ينبئ بما حدث يوم ’15 شتنبر’ على أعتاب سبتة السليبة؟ لا أظن ذلك، لكن هذه السخرية السوداء التي عبر عنها ‘بزيز’ منذ عقود، أي قبل أن يمنع من التعبير في الفضاء العمومي، يكشف مرارة ما يعتمل في نفس كل مغربي تجاه سياسة حكوماته، وتجاه اختيارات تدبير واقع بلده، سواء داخل الحكومة أو خارجها؛ أي حزبيا ومدنيا وأسريا، الخ.
ومهما يكن، فإن الشعب المغربي، أو جزءا منه على الأقل، قد ‘هرب’ فعلا يوم 15 شتنبر، وحاول ذلك قبل ذلك في مناسبات عدة. نجح مرة، وأخفق مرات.
لم يكن يفعل ذلك بطائرة، كما فعل الرئيس التونسي الأسبق، وكما يفعل كل الطغاة حين يهربون من شعوبهم، ولكنه حاول ذلك مشيا على الأقدام وسباحة في مياه البحر.
ومن سخرية القدر أنه فعل ذلك بعد أن حققت الحكومة ثروة حقيقية، وبعد أن أصبح المغرب الدولة الاجتماعية الأولى في القارة الأفريقية.وفي ظل هذا المعطى الجديد، ينبغي “ألا يهرب أي قط من دار العرس،” كما يقول المثل المغربي.
لكن شتان بين هرب شعب وهرب رئيس دولة (لا ننسى أن مسؤولين مغاربة هربوا أيضا خلال السنوات القليلة الماضية، أمناء أحزاب ورؤساء بلديات ورؤساء أندية كروية، لكنني أستعمل هرب بنعلي هنا لرمزيته المعبرة واللافتة للنظر).
هرب الرئيس التونسي لأن شعبه ثار عليه. وهرب الشعب المغربي، أو بعض منه حتى نكون منصفين، لأنه يعتقد أن في ذلك خلاص من حكومة الدولة الاجتماعية الأولى في المغرب. هرب لأن في ذلك هرب من أزمته الاقتصادية العامة ووضعه الاجتماعي الخانق، بما فيه من بطالة وغلاء معيشة وتضييق وانسداد في الآفاق وتردٍّ دراسي، الخ.
كان ينبغي بين تاريخ هرب بنعلي واليوم أن ينفتح مسلك مغاير: أن تُشْرَع الآفاق أمام الشباب، وأن تتغير قواعد اللعبة تغيرا جذريا. وقد حدثت إشارات قوية كانت بمثابة إنذار مبكر لما قد يحدث في مغرب القرن الحادي والعشرين، منها مثلا احتجاجات الريف وجرادة سنة 2017.
لكن حتى تلك الإشارات الصغيرة التي تعبر عنها فئات اجتماعية معينة، مثل احتجاجات الطلبة أو المتقاعدين، أو الردود المحلية والجهوية التي تحصل بعد بعض الكوارث الطبيعية، مثل زلزال الحوز واختناقات بني ملال جراء الحرارة وفيضانات الجنوب الشرقي الأخيرة، غالبا ما ينظر إليها بوصفها إشارات وأحداثا عابرة، لا مؤشرات خطيرة تنذر بقرب وقوع الكارثة.
كان ينبغي أيضا أن نتساءل مع الباحث عبد الرحمان رشيق، عندما أصدر كتابه القيّم ‘المجتمع ضد الدولة’: لماذا ارتفعت وتيرة الاحتجاجات في المغرب خلال السنوات القليلة الماضية؟ هل يتعلق الأمر بمجرد ‘سخونة رؤوس’ المغاربة؟ أم أن الأمر يتصل بقسوة أوضاعهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي باتت تدفع الكثير من المغاربة إلى الخروج إلى الشارع، بوصفه الملاذ الأخير للتعبير عن مرارة عيشهم، وها هي تدفع بشبابهم إلى أن يلقوا بأنفسهم في البحر بحثا عن أفق بديل في بلد آخر؟
من المؤكد أن الأمور لا تبدو بسيطة بالنسبة للحكومة، لكن حلّها ليس بالأمر العصي في الآن ذاته. ينبغي فقط أن تكون حكومة اجتماعية فعلا، لا قولا.
أختم هذه المقالة بهذه الإشارة المريرة: عادة ما تهرب الشعوب بشكل جماعي نتيجة حروب طاحنة أو مجاعة عامة أو جائحة قاتلة أو غير ذلك. على سبيل المثال، تتعرض غزة منذ نحو عام لإبادة جماعية لا سابقة لها في التاريخ، ولحصار شامل ممتد منذ سنوات من البر والبحر والجو، يمنع عنه الإغاثة بكل أشكاله الغذائية والعلاجية والإنسانية.
لكن شعبها لم يهرب ولم يلجأ إلى ‘نعيم’ البلدان المجاورة، بل اختار ‘جحيم’ هذا الحرب وهذا الحصار، معولا على مقاومة أبنائه البواسل، إيمانا منه أن المستقبل يكمن في التضحية بالذات، وأن استمرار وجوده يقتضي الوقوف بالضرورة في وجه هذه الهمجية التي يدعمها الغرب كله، وبعض من العالم.