story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

“الشعبوية” القضائية أو الخطر الداهم ؟!

ص ص

عبد الرزاق الجباري

رئيس “نادي قضاة المغرب”

لا شك أن مبادئ السياسة الجنائية المعاصرة، كما ترسخت نواتُها في الفكر الجنائي الحديث، تتأسس على ما أسفر عنه تطور العقل الفلسفي لدى مختلف المدارس الجنائية؛ بدءا من المدرسة التقليدية بنوعيها، التقليدية والجديدة، مرورا بالمدرسة الوضعية ثم المدرسة التوفيقية بينها وبين التقليدية، وانتهاء بمدرسة الدفاع الاجتماعي بصيغتيها، القديمة والجديدة.

ومعلوم أن من أبرز هذه المبادئ، ما تمت بلورته بخصوص أهداف السياسة الجنائية في المجتمعات الديمقراطية، والتي تروم، بالأساس، إلى بلوغ ثلاثة مقاصد كلية موَجِّهة للمقصد الأسنى، وهو: الحد من الجريمة. وهذه المقاصد الثلاثة، هي: تقييد حق الدولة في العقاب بالحد الأدنى لفائدة الحرية، وإعادة تأهيل الجناة للتأقلم مع قواعد العيش المشترك داخل المجتمع، وتفريد العقاب كوسيلة من وسائل هذا التأهيل.
ولتحقيق هذه المقاصد الثلاثة، استقر الفكر الجنائي المعاصر على وضع قاعدتين اثنتين ضامنتين لها:

أولاهما: الضرورة التجريمية القصوى، ومؤداها أن الجزاء الجنائي يعد استثناء من الأصل في أفعال الإنسان الذي هو: “الإباحة”، ولا يصار إليه إلا عند الضرورة، ويصبح ضروريا حينما ينطوي السلوك على ضرر أو خطر أشد اتساعا من أن ينحصر في فرد معين أو فئة بعينها.

ثانيتهما: العدالة التجريمية، ومُبَدَّاها ألا يكون تدخل المشرع الجنائي نزولا عند إرادة تحكمية أو إشباعا لنزوة عارضة، وإنما يتعين أن يكون تعبيرا عن الضمير الجمعي للمجتمع، وذلك عن طريق تجريم السلوك الذي يلحق مساسا بالقيم المعتبرة أساسية من طرف أغلبية المواطنين، بناء على دراسات علمية اجتماعية يتبنى مخرجاتها ممثلي هؤلاء الأخيرين في البرلمان كسلطة للتشريع ووضع القاعدة القانونية الجنائية. وهذا ما يصطلح عليه بـ “القانون الجنائي الديمقراطي” حسب تعبير المفكر J. LEAUTE .

وفي خضم ما اعتملَته هاتان القاعدتان في صناعة التشريع الجنائي لمدة طويلة من الزمن، خصوصا في ظل المجتمعات الديمقراطية التي تجعل من الحرية وحقوق الإنسان محور قوتها وتماسكها، برز تيارٌ حركيٌ جماهيري مناهض للديمقراطية العقلانية الجنائية، ميالٌ إلى الرغبة في العقاب وتشديده، قوامه التماهي مع ما يعتقده طموحات وآمالات لـ “الشعب” ولو كانت مجافية لقواعد النظام الديمقراطي، وهو ما اصطلح عليه في عرف وأدبيات السياسة الجنائية بـ “الشعبوية الجنائية” حسب تعبير القاضي المفكر D. SALAS.

وينبني هذا المفهوم، أساسا، على جملة من المواقف المنتمية إلى حقل السياسة الجنائية، المدعومة من فئة مؤثرة من “الشعب” ضد مؤسسات الدولة، الحكومية منها والتشريعية، والمرتكزة على بعض الأحاسيس والعواطف الشعبية التي تستغلها بعض الحركات المدنية والثقافية والدينية والإعلامية.

وبالرغم مما يتميز به هذا المفهوم من الاستغراق في تبسيط القضايا الجنائية المعقدة وتسطيح عناصرها القانونية المركبة، وطغيان الجانب العاطفي على الجانب العقلاني الذي تمتاز به الديمقراطية الجنائية، والانسياق وراء “النزوات” الظرفية السائدة بفعل ما أحدثته بعض المواقف “المُدغدغة” لمشاعر الفئات الشعبية البسيطة، فقد خضع المشرع الجنائي، في غير ما مرة، إلى ما دعا إليه التيار الشعبوي الجماهيري، ونكص عن العديد من المبادئ العلمية الموجِّهة للسياسة الجنائية المعاصرة، من بينها المقاصد الثلاثة المشار إليها آنفا؛ فاندفع إلى توسيع دائرة التجريم ضدا على مبدأ الحرية، مع جنوحه الواضح نحو التشديد في العقاب الذي يشكل حجر عثرة في طريق إعادة تأهيل الجناة، ثم التقليص من نطاق تفريد هذا العقاب كأداة للتأهيل المنشود.

ولما نجح هذا التيار الحركي في إخضاع المشرع الجنائي، انتقل إلى السرعة القصوى في الآونة الأخيرة، خصوصا مع تنامي استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وخاض في استهداف السلطة القضائية بالضغط عليها عن طريق ما يجترحه، بين الفينة والأخرى، من محاكمات “شعبوية” منفلتة عن كل القيود الأخلاقية والقانونية والدينية، في ركوب صارخ على معاناة الضحايا من أجل تحقيق غاياته السياسية أو الاقتصادية، بعيدا عن واجب الموازنة بين حقوق هؤلاء الضحايا وحقوق المعتدين عليهم؛ مما أفضى، في العمق، إلى نسف كل مبادئ المحاكمة العادلة المترسخة في الوجدان الحقوقي الكوني، حتى صرنا أمام ما نسميه بـ “الشعبوية الجنائية القضائية”.

ومهما يكن من الغايات التي يعتقدها أنصار هذا التيار، فإن ساحة القضاء وطبيعة مهامه تتجافى وفكرة “الشعبوية الجنائية” لما تشكله من خطر كبير على استقلال السلطة القضائية التي ما فتئ التيار المذكور، في مناسبات عديدة، يرفع شعار هذا الاستقلال خلافا لما يستبطنه من شعور في مواجهته؛ ذلك أن استقلال القضاء هو الضمانة الوحيدة لحماية حقوق وحريات الأفراد والجماعات، وكل تسطيح للقضايا القانونية المعقدة المعروضة عليه، ومُصاحبتها بـ “هيجان” عاطفي ضاغط منفلت عما هو عقلاني موضوعي، بناء على “نزوات” ظرفية “انفعالية” غير ثابتة، هو تقويضٌ لها لا مُجبِرَ له، وإذا قُوِّض استقلال القضاء انهدم على إثره، بالتبع، صرح الحقوق والحريات.

ولعمري، هذا هو الخطر الداهم الذي يهدد المجتمع إذا ما لم يتم كبح جماح هذه الحركة الشعبوية في مجال القضاء الجنائي من لدن النخب العاقلة الغيورة على تماسك المجتمع واستقراره.