story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

الشباب المغربي و”المواطنة المؤجلة”.. لماذا نعمِّق الجراح!؟

ص ص

منذ عقود، ظلّ الحديث عن الشباب في المغرب حاضرًا في الخطابات الرسمية، والبرامج الحكومية، والتصريحات الإعلامية، لكنه غالبًا ما كان حديثًا عنهم، لا معهم. حديثٌ يُطمئن الدولة أكثر مما يُطمئن الشباب أنفسهم، ويصبّ في خانة التدبير الرمزي أكثر مما يُعبّر عن إرادة سياسية حقيقية.

ليس سرًا أن الشباب المغربي يعيش مفارقة حقيقية: تُقدَّم هذه الفئة في الخطاب الرسمي كـ”ثروة وطنية” و”أمل المستقبل”، لكن السياسات العمومية تُنتج، في الممارسة، أشكالًا من الإقصاء الناعم، أو الإدماج المشروط، وكأن المسألة لا تتعلق ببناء مجتمع متوازن، بل بإدارة زمن اجتماعي قلق.

في كتابه La société du malaise، يتحدث الفيلسوف الفرنسي ألان إيرنبرغ عن فكرة بليغة: المجتمع الذي لا يعرف كيف يُصغي لألمه، يُنتج أفرادًا يصرخون كلٌّ على حدة. وهذه الفكرة تعبّر بعمق عن حال آلاف الشباب الذين لم يعودوا يثقون في المؤسسات، لا لأنهم يرفضون الانتماء، بل لأنهم لم يعثروا فيها على صوتهم أو قضاياهم.

ولفهم خلفية هذه الأسطر المحررة بحسرة شديدة، أدعوكم للتوقف عند واقع الشباب المغربي في مختلف القطاعات التي يُفترض أن يكون فيها محورًا للسياسات العمومية.

في قطاع التعليم، الذي يُفترض أن يكون رافعة للتنمية، تكشف المؤشرات أن المدرسة لم تعد أداة لتحرير العقول بقدر ما أصبحت وسيلة لإعادة إنتاج الفوارق. أما الجامعة، فبينما تُخرّج آلاف الشباب سنويًا، فإنها لم تعد قادرة على تخريج الأمل.

وفي سوق الشغل، ترتفع نسب البطالة، خاصة في صفوف خريجي التعليم العالي، وتُعاد صياغة البرامج بأسماء مختلفة، بينما يظل الواقع كما هو: اقتصاد لا يخلق فرصًا كافية، مقاولة لا تؤمن إلا بالخبرة، ومجتمع لا يشجع الإبداع.

في هذا السياق، كتب المفكر المغربي عبد الله العروي في مفهوم الدولة: “الدولة، أول ما تواجهنا، تواجهنا كأيديولوجيا، أي كفكرة مسبقة، كمعطى بديهي، يُطلب منا أن نقبله بلا نقاش، كما نقبل خلقتنا وحاجاتنا… كل تفكير حول الدولة يدور إذن على محاور ثلاثة: الهدف، التطور، والوظيفة”.

هذا التصور يُبرز كيف تُقدَّم الدولة كمُسلّمة في الفضاء العام، ويُفسر لماذا تفشل كثير من المبادرات الرسمية في استقطاب الشباب، لأنها لا تطرح نفسها كمساحة للنقاش أو الشراكة، بل كنسق يجب القبول به كما هو.

أما الثقافة والفن، فلا يزالان يعانيان من التهميش، رغم أن الرهان الثقافي هو رهان وجودي. فكيف يمكن بناء وعي نقدي وشعور وطني حيّ في ظل مسارح خاوية، ودور شباب مفرغة من التأطير؟ كما أشار إلى ذلك إدوارد سعيد، حينما اعتبر الثقافة ساحةً للصراع حول المعنى والانتماء، لا ترفًا.

وفيما يخص الرياضة، فهي تمثل قصة نجاح رسمية في المحافل الدولية، لكنها في الواقع المحلي تعاني من اختلالات بنيوية: غياب البنيات التحتية الملائمة والموزعة بشكل عادل، الدعم العشوائي، وتهميش المواهب الناشئة في الأحياء الشعبية. يُراهن على الرياضة كأداة اندماج خارجي، لكن يُغفل دورها الحيوي في احتضان الشباب وتأطيرهم على المستوى الداخلي، عبر سياسات جدية ودامجة.

وفي خضم هذا المشهد، برز عامل جديد غيّر المعادلة: التحول الرقمي. فبينما تشتغل الدولة بمنطق البرامج القطاعية، يشتغل الشباب بمنطق المنصات، ويتفاعلون مع قضاياهم خارج الإطار المؤسساتي التقليدي. لم تعد وسائل التواصل مجرد أداة للتعبير، بل أصبحت فضاءً لتشكيل الوعي، وصناعة الرموز، وبلورة أشكال جديدة من الفعل الجماعي.

تتيح الشبكات الرقمية مساحات حرّة نسبيًا، يعيد فيها الشباب صياغة خطابهم، وتطلعاتهم، وحتى انتماءاتهم. ورغم ما يُقال عن الفوضى أو السطحية، فإن هذه المساحات أصبحت تؤثر فعليًا في الرأي العام، وتدفع الفاعلين، ولو متأخرين، إلى إعادة ترتيب أولوياتهم. لم يعد الشاب ينتظر منبرًا رسميًا ليتحدث، ولا حزبًا ليعبّر، ولا وسيطًا لينقل صوته. ومن لا يشعر بأن صوته مسموع، سيبني وطنه الخاص في عوالم موازية.

أما في السياسة، فقد أصبح الشباب في الغالب خارج اللعبة. لا عزوفًا كما يُردّد، بل رفضًا لفعل سياسي لم يَعُد يُقنع. نموذج يُعيد إنتاج النخب، يُقصي الاختلاف، ويكتفي بإشراك رمزي للشباب دون سلطات حقيقية أو أفق للتأثير.

وهنا يحضرني الفيلسوف والمناضل الإيطالي أنطونيو غرامشي، حينما تحدث عن الأزمة بوصفها المرحلة التي يموت فيها القديم دون أن يولد الجديد بعد. فالشباب المغربي يعيش في قلب هذه الأزمة: لا القديم يقنعه، ولا الجديد يتشكّل له، والنتيجة أن أجيالًا كاملة تعيش في منطقة رمادية، بين الانتظار والانسحاب، بين الترقب والخذلان.

إن السؤال اليوم لم يعد: هل نملك برامج للشباب؟، بل: هل نملك رؤية؟ هل نمتلك شجاعة إعادة التفكير في علاقتنا بهذه الفئة؟ هل نستطيع الاعتراف بأن فشل السياسات الموجهة للشباب ليس عرضًا، بل نتيجة لبنية إنتاج القرار العمومي نفسها؟

الجواب لن يكون في مبادرة معزولة، ولا في شعار انتخابي، بل في مشروع وطني لا يرى في الشباب عبئًا ينبغي احتواؤه، بل طاقة يجب دعمها.

حينها فقط يمكن أن نتحدث عن المواطنة، لا كحالة انتماء جغرافي، بل كعلاقة قائمة على الالتزام المتبادل بين الفرد والدولة.