story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

السودان.. تلك المأساة المنسية

ص ص

مع كل خبر أنشره عن حرب السودان، أتألم لشعبه. السودانيون غير محظوظين. حتى في مأساتهم لا يكاد يلتفت إليهم أحد. خذ عندك واحدةً لتدرك حجم الكارثة: الأمم المتحدة تتحدث عن 20 ألف إنسان قتلوا جراء حرب الانقلابيين، وبحث لجامعات نبراسكا وكاليفورنيا ولوفين وأوريغون، استند إلى تقديرات نقابة أطباء السودان ومنظمات دولية، تحدث عن نحو 130 ألف قتيل في 18 شهرا فقط، جراء الحرب بشكل مباشر، أو بسبب تداعياتها.

تأخذنا المأساة الأخرى: غزة. تستحق غزة أن ننغمس في إبادتها، وكل تلك الدماء والتجويع والتهجير. لكنني دوماً أحملُ شعورا بالأسى والتقصير في كل تقرير أمرّره عن “بلاد النوبة”، المنكوبة أيضا.

هذا الأسبوع مرّرتُ للنشر شريط فيديو عن مأساة النازحين إلى تشاد. تشعر أن حياة ملايين السودانيين رديفٌ للشقاء. تقرأ في التقرير أن الجوع الشديد واليأس يدفع أعداداً من اللاجئين إلى حفر بيوت النمل للبحث عن حبيبات الدخن والذرة من أجل سد رمقهم ( تخيّل)، بينما بعضهم يقتات على أوراق الأشجار أو الأعشاب المتوفرة، وأحياناً علف الحيوانات إن توفر ( كما غزة).

لا مفاضلة في المأساة والألم وضحايا الحروب. ولا فرق بين فلسطيني وسوداني. بميزان الإنسانية هما واحدٌ. ما يجري في السودان لا يقلّ فداحة عن الإبادة الجارية في غزة، فالدمويون ملّةٌ واحدة. في السودان يكون الأمر أكثر بشاعة: القتل بيد أبناءِ البلد، ومن يضغط على الزناد سودانيٌ، والمغتصِبُ من شركاء الوطن، ومن يشرّد ويُهجِّر قريبٌ وليس احتلالا. والأبشع هو ذلك القتل على أساس الهوية الإثنية، الكافي لتأبيد الأحقاد وإبقاء السودان في حلقة عنف مفرغة.

منذ استقلال السودان في سنة 1956 يبدو أن الانقلابات صارت عقيدةً لعسكر “بلاد النيل”: 19 محاولة انقلابية، 7 منها نجحت. بذلك يكون السودان الدولة الأفريقية رقم واحد في عدد محاولات الانقلاب، ولا تتفوّق عليه عالميا إلا بوليفيا بـ23 محاولة انقلاب منذ 1950.

بين انقلاب وانقلاب في السودان، تململٌ شعبي يُسقط الديكتاتور، ثم فترة انفراج، قبل أن يستيقظ ضابط لتنفيذ الانقلاب التالي. سوادنيون مقتنعون أن الجيش عنوانُ الدولة وعمودها الفقري، الذي يجمع “بلاد النيل” بكل تنوّع وتداخل روافدها وذلك “الأرخبيل الإثني”، لكن أيضا حجرٌ في حذاء الدولة عن الاتجاه نحو الديمقراطية. وآخرون يلومون، عن حق، وبحقائق التاريخ الحديث، السياسةَ واختراقها للجيش أو استدعائها ( طواعيةً) للعسكر للهيمنة، وكيف حوّلت قوى مدنية المؤسسةَ العسكريةَ إلى ذخيرة في الصراع السياسي عند كل منعطف لنسفِ كل توافق على الانتقال.

نتحدث في السودان الحديث عمّا يقارب 20 مجموعة سكانية، ومئات القبائل. يجمعها كلها وطن السودان الذي يُكابد ليبقى واحداً، ويستغل الدمويون رواسب التاريخ للتشتيت.

تلك الحرب البشعة بين الجيش وقوات الدعم السريع تدخل عامها الثالث، والبلد منقسمٌ: يسيطر الجيش الانقلابي على وسط السودان والشرق والشمال، وتسيطر قوات الدعم السريع الميليشياوية على كل دارفور تقريبا وأجزاء من الجنوب. وعن حق، تصف الأمم المتحدة ما يجري في السودان بأنه “أسوأ أزمة إنسانية”.

الجيش الذي يقوده الجنرال عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع التي يتزعمها (الجنرال) محمد حمدان دقلو (حميدتي)، كانا شريكيْ انقلاب أكتوبر 2021 ضد الحكومة المدنية التي كان يرأسها عبد الله حمدوك، بعدما أطاح الجيش، في عام 2019، بالرئيس المخلوع عمر البشير، الذي حكم البلاد منذ عام 1989 بعد انقلاب أيضا.

بلد يُحكم بالانقلابات لا يمكن أن يكون حاله غير هذا الحضيض والقهر. هذه البشاعة بِنْتُ السلطوية العسكرية الحمقاء المدجّجة بالسلاح، التي تعبث بمقدرات السودان، الذي “ينام على منجم ذهب” يشقى به شعبه (يتمركز إنتاج الذهب في 14 ولاية من بين 18 ولاية)، وكل تلك المعادن النادرة والأراضي الخصبة، وأيضا تلك الأصابع الخارجية الآثمة التي تُؤبّد الحرب والشك والموت والنهب.

في المخيال أن السودان يمكن أن يُطعم كل جواره بأراضيه الخصبة. لكن الواقع المُفجع الآن أن أغلب شعبه يتضوّر جوعاً، وأن السودانيين منذ عقود يتقلّبون بين انقلاب مجرم وآخر لا يقلّ إجراما، بجيش أدمن الهيمنة على البلد والتمرّدات، أو جعلته السياسة يُدمن الحكم.

رغم ذلك، تدرك أن الوضع في السودان يبقى أعقدَ من قصة جيش صار مُصابٍا بداء الشرّه للسلطة إلى كل تلك الإثنيات التي تحمل بذور تفجّر دائم إلا بـ”حكم رشيد”. (وقد يُعلّق قارئٌ لهذه المقالة بحقّ: حكم رشيد؟؟ ما أسهل الكلام يا هذا).

تنظر في السياسة الموْءودة وتكوين السودان بكل عرقياته، لترى القهر يطاول كل أطياف الشعب وتلاوينه. الموت لا يستثني أحدا. يشغلك كمُّ الهدر الجاري للكرامة البشرية. وما تنقله المنظمات، بينها منظمة العفو الدولية، عن العنف الجنسي يكاد يصيب بالدوخة. حديث واسع عن جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، تشمل الاغتصاب، والاغتصاب الجماعي، والاستعباد الجنسي.

تقرأ في تقرير عن اغتصاب أمّ بعد انتزاع طفلها الرضيع منها، واستعباد جنسي لمدة 30 يومًا لامرأة في الخرطوم. في نيالا، جنوب دارفور، ربط جنود امرأة بشجرة قبل أن يغتصبها أحدهم، بينما يشاهد الآخرون. وفي مدني، ولاية الجزيرة، اغتصب جنود من الدعم السريع امرأة بشكل جماعي أمام ابنتها البالغة من العمر 12 عامًا، وشقيقة زوجها. وقالت عاملات في المجال الطبي إن جنود قوات الدعم السريع اغتصبوهنّ لمّا عجزن عن إنقاذ جنود جرحى (!!!!!).

فتيات حكين: “في النهار أجبرنا مسلحون على المشي لساعات وتعرضنا للضرب.. وفي الليل تعرضنا للاغتصاب مرة تلو أخرى”. إحدى الشابات انتحرت بعد اغتصابها من قبل جنود قوات الدعم السريع أمام والدها وأخيها. ووفق تقارير، فإن العديد من النساء في ولاية الجزيرة، وسط البلاد، أقدمن بدورهن على الانتحار بعد اغتصابهن. سيدة مغتصبة في أم درمان اختصرت القصة المؤلمة بقولها إن “النساء لسن مَن يقُدن هذه الحرب أو يشاركن فيها، لكنهن الأشد معاناة”.

منظمة الأمم المتحدة للطفولة ( يونيسف) تشير إلى أن البيانات التي جمعها مقدمو خدمات العنف القائم على النوع الاجتماعي في السودان ترسم صورة مؤلمة للأزمة التي يتعرض لها الأطفال. تحدثت عن حالات “اغتصاب رجال مسلحين لأطفال ورُضّع لا تتجاوز أعمارهم السنة (..) لقد زرع العنف الجنسي المتفشي في السودان الرعب في الناس، وخاصة الأطفال”.

لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الطفل قالت إن 24 مليون طفل سوداني معرضون لخطر “كارثة عابرة للأجيال”. في هذا البلد المنسي أكبر أزمة نزوح للأطفال في العالم (7 ملايين طفل)، ملايين منهم يعانون من سوء التغذية الحاد. البشاعة تصل منتهاها حين يجري تجنيد الأطفال وقودا للحرب. تقارير تتقاطع في الكشف عن تجنيد واسع للأطفال لاستخدامهم في أعمال الحرب. ومن يتحدثون عن “ضياع جيل” كامل في السودان لا يبالغون.

السودان المنكوب آثرٌ للصراع على السلطة بشكل حادٍ وخطير. الأزمة الانسانية نتيجة الاحتدام، وكل هذا الاعتداء على الكرامة الإنسانية في السودان فاتورة التنافس المحموم على الحكم، الذي هو مدخل للهيمنة على الثروة، والمؤسسات. الاستقرار الغائب منذ عقود قسّم السودان و”أنجب” دولة جنوب السودان، ويهدّد وحدة الأراضي اليوم بعدما شَطَرَ الانقلابيون الدولة.

قصارى القول

السلطويات خطرٌ على الأوطان. نكتبها بإلحاح في كل مرة، حتى لا تنكسر الجرّة: جرّة الاستقرار والكرامة الإنسانية، والوطن الجامع. السلطويات تتغذى من الانقسام وتشيع الخوف، وتحوّل التنوّع إلى عامل تقسيم وتفرقة، وتختطف المؤسسات بزعم الوطنية. العقل السلطوي يمكن أن يفعل هذا في كل بلد، وفي السودان تجلّى بأكثر الصور مأساوية.

يهمّنا أن نذكّر بالمأساة التي يشيح العالم بنظره عنها. السودانية التي تُغتصب رفقة بناتها تستحق الحديث عن مأساتها. الجيل الضائع الذي شرّدته الحرب أهمّ من أمراء الحرب، وكل ذلك الإجرام من دول توصف في البيانات الرسمية المنافقة بـ”الشقيقة”، لكنها تُغرِق البلد في الموت، عبر جسور جويّة للإمداد بالسلاح، تعود محمّلة بأطنان الذهب. قصة الرضع الذين يُغتصبون ولم يتجاوزوا العام “يجب أن تصدم أي شخص في صميمه”، بحسب تعبير المديرة التنفيذية لليونيسف، كاثرين راسل.