story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الرياض.. شبح ميونيخ وظلال يالطا

ص ص

تستضيف العاصمة السعودية الرياض هذه الأيام، محادثات قد لا نشعر اليوم بأهميتها في مسار التحوّل الجذري الذي يشهده ميزان القوى العالمي، لكنها قد تتخذ طريقها بسهولة في سجل المؤتمرات التاريخية التي كان لها ما بعدها.

فأغلب المؤتمرات التي تستعمل اليوم كإحداثيات في رصد التطوّر التاريخي، لم تكن لحظة حدوثها تتمتّع بهذه الهالة. لكننا اليوم أمام لقاء مباشر بين الطرفين اللذين يعتبران وراء الحرب الطاحنة والمدمّرة التي عاشتها أوكرانيا منذ ثلاث سنوات، وتعتبر أوربا المعنيّ الأول بها. فلا أوكرانيا حضرت اللقاء، ولا أوربا استشيرت قبل انعقاده، وها هما بوتين وترامب يمهّدان للقاء يحتمل أن يجمعهما قريبا، للتوقيع على بنود اتفاق لا يستبعد أن يكون بداية لعالم جديد.

وأنا أتابع ما يجري في عاصمة المملكة العربية السعودية، وأحاول تتبّع أصدائه في العواصم الدولية الكبرى لفهم أبعاده والإمساك ببعض من خيوطه، صادفت تدوينة قصيرة للأستاذة والخبيرة الحقوقية، حورية التازي صادق، تتساءل فيها: “هل نحن أمام مؤتمر يالطا جديد؟”، ما سمح لي باقتناص طريقة في تحليل ما هو آني عبر وضعه أمام مرآة زحداث تاريخية مشابهة، أو ما يعرف في تقنيات التحليل بالتناظر التاريخي (Historical Parallels).

تشير الأستاذة والمتابعة الحصيفة للأحداث الدولية والوطني، إلى ذلك المؤتمر الذي التأم فيه كل من الاتحاد السوفيات والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، في مدينة “يالطا” الواقعة على الساحل السوفياتي المطل على البحر الأسود (شبه جزيرة القرم)، وكان ذلك في شهر فبراير أيضا (علي غرار مؤتمر الرياض).

وناقش ذلك المؤتمر تفاصيل تقسيم ألمانيا (المنهزمة) بين المعسكرين الشرقي والغربي، والاتفاق على قواعد الحفاظ على السلم العالمي في أعقاب تلك الحرب الكونية المدمّرة.
الآن هل يجوز تشبيه ما يجري في الرياض حاليا بمؤتمر يالطا؟

نتذكّر بداية كيف أن مؤتمر يالطا عُقد في فبراير 1945، في شبه جزيرة القرم، بحضور القادة الثلاثة: جوزيف ستالين (الاتحاد السوفيتي)، وفرانكلين روزفلت (الولايات المتحدة)، وونستون تشرشل (بريطانيا). وخلاله تم وضع الأسس التي أعادت تشكيل النظام العالمي للعقود الماضية، من خلال تحديد مصير أوروبا بعد الحرب، وخاصة ألمانيا التي كانت وقتها على وشك الهزيمة.

وتم بناء على ذلك تقسيم ألمانيا إلى أربع مناطق نفوذ بين الولايات المتحدة، والاتحاد السوفيتي، وبريطانيا، وفرنسا، وتقرّر إنشاء الأمم المتحدة لضمان الاستقرار الدولي ومنع الحروب المستقبلية، مع رسم حدود النفوذ السوفيتي في أوروبا الشرقية، مما مهد لاحقًا للحرب الباردة بين الشرق والغرب.

تأكد بعد هذا المؤتمر انقسام العالم بين معسكرين: شرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي، وغربي بقيادة الولايات المتحدة. وتم وضع أسس نظام دولي جديد قائم على التعددية القطبية المنظمة عبر الأمم المتحدة، ولكنه سيخضع لاحقًا للحرب الباردة. فيما تُركت أوروبا الشرقية تحت الهيمنة السوفيتية، مما أدى إلى نشوء “الستار الحديدي” وانقسام العالم إلى معسكرين متنافسين. أي أنه وبكل اختصار: كان مؤتمر يالطا لحظة مفصلية في التاريخ العالمي، ولم يكن مجرد لقاء دبلوماسي، بل إعادة رسم شاملة لخريطة النفوذ السياسي والعسكري الدولي.

لنغيّر وجهة المنظار الآن نحو محادثات الرياض، ولنسجّل أنه يأتي في سياق مختلف تمامًا عن مؤتمر يالطا. فعلى الرغم من أهمية هذا الاجتماع، إلا أن هدفه الرئيسي يبدو أكثر ارتباطًا بملف الحرب في أوكرانيا منه بإعادة رسم النظام العالمي.

ويتّسم السياق الذي ينعقد فيه اللقاء باستمرار الصراع الروسي الأوكراني، مع تزايد التكاليف العسكرية والاقتصادية على جميع الأطراف، وتصاعد التوتر بين روسيا والغرب بسبب العقوبات الاقتصادية والدعم العسكري الأمريكي لأوكرانيا، إلى جانب محاولات بعض الدول، مثل السعودية والصين، للعب دور الوسيط بين موسكو وواشنطن، ما يعكس تغيرا في مراكز النفوذ الدولي وظهور لاعبين جدد، خاصة الصين التي باتت لاعبا ثالثا في المشهد.

يرمي لقاء الرياض إلى مناقشة سبل إنهاء الصراع في أوكرانيا أو التوصل إلى هدنة مؤقتة، مع محاولة تخفيف التوترات الدبلوماسية بين روسيا والولايات المتحدة، وتقييم تأثير العقوبات الغربية على موسكو، وإمكانية تقديم تنازلات متبادلة، إلى جانب البحث في مستقبل الأمن الأوروبي وحلف الناتو، في ظل استمرار التوسع العسكري الغربي في أوروبا الشرقية.

ويمكن بالتالي الاعتراف بأن محادثات الرياض ليست لحظة فارقة في التاريخ العالمي كما كان الحال مع مؤتمر يالطا الذي غيّر شكل النظام الدولي بالكامل؛ ولا يشير إلى نهاية صراع شامل، بل إلى إدارة نزاع إقليمي، وقد يسفر عن صفقة دبلوماسية تنظم النفوذ الروسي في أوكرانيا وأوروبا الشرقية، لكنه لن يعيد رسم النظام العالمي بشكل جذري كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية.

لكن اللقاء يظلّ محوريا في تجسيد حالة تعدد الفاعلين الدوليين اليوم، حيث لم تعد القرارات الكبرى تتخذ فقط بين واشنطن وموسكو، بل بمشاركة قوى أخرى مثل الصين والسعودية، مما يعكس واقعا جديدا للعلاقات الدولية. وقد يكون اللقاء خطوة أولى نحو مفاوضات أوسع تشمل قضايا أمن الطاقة، والعقوبات الاقتصادية، وإعادة ضبط العلاقات الدولية، لكنه ليس إعلانا لنظام عالمي جديد كما كان الحال في يالطا.

لكن ما ينبغي الانتباه إليه، هو أن مثل هذه المؤتمرات الدولية لم تكن دائما بداية لحقبة سلم ورخاء، بل كان بعضها بداية لويلات وحروب طاحنة.

ففي مؤتمر ميونيخ 1938، وافقت بريطانيا وفرنسا على السماح لهتلر بضم إقليم السوديت من تشيكوسلوفاكيا مقابل ضمانات بعدم التوسع أكثر، لكن بعد شهور قليلة، خرق هتلر الاتفاق واحتل كامل تشيكوسلوفاكيا، مما أدى إلى انهيار الدبلوماسية ودخول أوروبا في الحرب العالمية الثانية.

بل إن الجذور الأولي لتلك الحرب توجد في مؤتمر فرساي الذي عقده المنتصرون في الحرب العالمية الأولى، وأسفر عن شروط استسلام مذل لألمانيا، ما ولّد فيها رغبة في الانتقام…