story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الرحلة السامسونية

ص ص

صباح الاثنين 10 يونيو، أحد أيام ربيع العام 2024، وبينما كانت الأرض تزدهي بألوان الزهور، وتتراقص تحت أشعة الشمس الذهبية، بدأت بدعوة من وزارة السياحة والثقافة التركية، زيارة استكشافية لمدينة سامسون، تلك الجوهرة المكنونة على ضفاف البحر الأسود.
تندرج الزيارة ضمن مهرجان فني وثقافي مخصص للتعريف بالمدينة، وكان هدفي أن أكتشف مميزات هذه المدينة، وفي ذهني سؤال كبير: ما الذي يجعل الأتراك يؤمنون بأنفسهم إلى الحد الذي يطمحون معه إلى خلق قطب سياحي جديد، وكيف يمكننا نحن الذين ننشغل بتطوير وتنمية بلداننا المتخلفة، أن نستلهم منهم، في النجاحات كما في تجنب الإخفاقات.
استقبلتنا المدينة بنسمات بحرية عذبة تلطّف حرارة صيفية تثقلها رطوبة البحر، ووجوه أهلها الطيبة.
كانت سامسون، تُعرف في العصور القديمة باسم “أميسوس”، وهي واحدة من أقدم المدن التركية. استوطنتها الحضارات المختلفة منذ العصر الحجري الحديث، وتعاقبت عليها الإمبراطوريات العظيمة مثل اليونانيين والروماني والبيزنطيين، وصولا إلى العثمانيين. وشكّلت على مر العصور مركزًا تجاريًا وثقافيًا مهمًا، وهو الرصيد الذي تسعى تركيا أردوغان اليوم إلى تثمينه وتسويقه.
طاف بنا المرشدون في أروقة المتحف الجديد الذي يحكي لزواره تاريخ المدينة، حيث عُرضت آثار الحضارات المتعاقبة، من الهيتيين والرومان، ثم البيزنطيين والعثمانيين…
كنت أتأمل الأدوات الحجرية والبرونزية والنقوش والتماثيل والأواني والبيوت والأزياء، متسائل في كل مرة: لا شيء من كل هذا ينقصنا، فلماذا لا نؤمن بذاتنا مما يؤمن الأتراك بذاتهم الوطنية؟
في ذلك المتحف، استوعبت كيف تتداخل الثقافات لتصنع هوية سامسون الفريدة، والتي يحاول القائمون على السياحة والثقافة الأتراك، ترويجها في سوق عربية يبدو أنها ما زالت مغرية. وفي هذا المتحف، أدركت كيف يمكن للمغرب أن يحتذي بهذا النموذج في الحفاظ على تراثه وتثمينه بشكل حديث يجذب السياح.
كانت الرحلة نفسها مبعثا على التأمل والاستلهام، تشكيلة منتقاة بعناية كبيرة تطلّبت الاستعانة بخبراء محليين في مختلف الدول العربية لاختيار المشاركين. صحافيون مرموقون يشتغلون في مؤسسات موزعة من المغرب إلى الكويت، ومؤثرون لهم جمهور متعطش لمحتوى يقدّم جمال وثراء الطبيعة والطبخ. و… كلمة سر تركيا ومعها منطقة سامسون التاريخية: السياحة العلاجية.
رتّب لنا المشرفون على الرحلة لقاءات مع القائمين على السياحة في المدينة، وضمنهم والي سامسون. الدخول إلى مكتب هذا الأخير يذكّرك في جميع تفاصيله بالدخول على وال من ولاة المغرب. الحجم الضخم نفسه للبناية، وحضور أمني كثيف داخل ممراتها، وغير قليل من المهابة يبديه الموظفون تجاه رئيسهم، حتى أن المصوّر الرسمي للولاية ينهي كل كبسة على زر آلة التصوير، بإلقاء تحية أمنية للوالي.
أخذنا النقاش في حضرة الوالي حول المميزات السياحية للمدينة، وطيورها المميزة… فطلبت الكلمة وأخبرته أنني سأكلمه في موضوع بعيد عن السياحة والطيور: كيف أثرت عليكم التوترات الجيوسياسية التي حصلت في السنوات الأخيرة غير بعيد عن سواحلكم.. حرب روسية أوكرانية في الضفة الأخرى للبحر-البحيرة، ومواجهة صامتة بين الحلف الأطلسي والروس؟
ابتسم الوالي مسبّبا تمدّد شنبه تركي الشكل، وأجاب: هناك إلى اليوم سفن سياحية تصل بشكل أسبوعي حاملة كل مرة ألف سائح روسي، ونحن نستقبل السياح من أوكرانيا ومن باقي الدول الأوربية…
الأتراك يثبتون دائما أنهم سادة تحويل النكبات إلى فرص ومكتسبات. وفي عز الحرب الروسية الأوكرانية وما سببته من تداعيات اقتصادية للمنطقة، كانوا يتوسطون لإخراج القمح الأوكراني وتصديره عبر موانئهم.
رغم كل هذه الجوانب الإيجابية، لم تخل رحلتنا من ملاحظات حول نقاط الضعف في المدينة. من ذلك غياب الرحلات الجوية المباشرة إلى سامسون، وهو ما جعل الوصول إليها يستغرق وقتًا أطول وجهدًا أكبر. بالإضافة إلى ذلك، لاحظت إلى جانب باقي زملائي، أن البنية التحتية السياحية في سامسون بحاجة إلى تحسين مقارنة بمدن تركية أخرى مثل إسطنبول. حيث تفتقر المدينة إلى بعض الخدمات التي تجعل من تجربة السياح أكثر راحة ويسرًا…
وفي كل مرة كان جواب المسؤولين الأتراك: إذا تطوّر الطلب سيتطوّر العرض.
في أحد صباحات هذه الرحلة، أخذنا المنظمون إلى محمية كيزيليرماك دلتا للطيور، حيث تتجلى روائع الطبيعة ملتحمة بإرادة الإنسان في استدامتها.. مزارع وضيعات وبيوت كثيرة تم اقتلاعها من المكان ليتحوّل إلى محمية طبيعية للطيور المهاجرة والأبقار والخيول البرية… جنة خضراء فوق الأرض، حيث السكينة والهدوء يتعانقان.
الموقع يجسّد أهمية الحفاظ على النظام البيئي المتوازن، فيحقق الانسان مكاسب صحية ومعنوية، وفي الوقت نفسه يصبح قادرا على جذب الزوار المتعطشين للطبيعة.
فهل يمكن للمغرب أن يعزز محمياته الطبيعية ويحولها إلى وجهات سياحية مستدامة تسهم في حماية التنوع البيئي وجذب السياح؟
لم يمكن لهذه الرحلة أن تكتمل دون زيارة السفينة التاريخية “بندرما”. هذه الأخيرة هي التي أقلّت مصطفى كمال أتاتورك ورفاقه إلى سامسون في التاسع عشر من مايو عام 1919، لبدء حرب الاستقلال التركية.
كل شيء في المدينة يوحي بأثر احتفالات كبيرة جرت تخليدا لهذه الذكرى قبيل وصولنا. وصور وتماثيل أتاتورك تزين شوارع المدينة.
هذه السفينة العريقة، التي تحولت إلى متحف عائم يروي قصة تلك الرحلة الاستثنائية لأتاتورك، أصبحت وجهة سياحية يقصدها الزوار والأطفال من تلاميذ المدارس المحلية. تشعر على متن السفينة كمن يسافر عبر الزمن، حيث الصور القديمة والوثائق التاريخية التي تحكي عن تلك الفترة. وفي كل ركن هناك ذكريات ومجسمات تروي بطولات رجال ناضلوا من أجل استقلال وطنهم.
في ليلتنا الأولى في الفندق، وهو من أفخم فنادق المدينة، كان تحت شرفات غرفنا مباشرة حفل غنائي صاخب لأحد أكثر ملهمي الأجيال الصاعدة من أبناء المدينة. وفي ليالي المهرجان، كانت المدينة تعج بالحياة والنشاط. فنانون من كل حدب وصوب، يعزفون ألحان الفرح على أوتار القلوب.
العروض المسرحية والموسيقية كلوحات فنية تتحدث لغة الجمال والإبداع. كانت المدينة تعج بالحياة والنشاط، كأنها تفتح أبوابها للعالم بأسره لتعرض ثقافتها وتراثها.
على بساطتها التي تذكرك أحيانا ببعض المدن المتوسطة للمغرب، تكتشف في كل زاوية من زوايا المدينة، جمالًا جديدًا. تلال أميسوس (الاسم القديم للمدينة) المطلة على البحر، وشارع التحرير الذي شهد على خطوات مصطفى كمال أتاتورك، وتمثال الشرف الذي يخلد ذكراه… في كل مكان، كنت تجد سحر الطبيعة والتاريخ وهما ينسجان حكاية متجددة.
تعلّمك التجربة التركية في كل مرة أنك لا تحتاج بالضرورة إلى ملايير الدولارات كي تتقدم، بل يكفي أن تثمّن ما أنت عليه. وفي غياب بنيات سياحية كبيرة وفخمة، لا يقتصر جمال سامسون على الطبيعة، بل كانت هناك فنون الطبخ والموسيقى والصناعات اليدوية.
الأطباق المحلية جزء لا يتجزأ من أية تجربة سياحية في تركيا.
هنا في سامسون يمكنك تذوّق خبز البافرا البيتا المحشو باللحم والبصل، وأن تتلذذ بطبق الشاكالي مينيميني المميز بالجبن، والكباب التقليدي المصنوع من لحم الماعز، وطبق السارما المحشوة بالفول والبرغل، وفطيرة الجبن والفلفل “تالي بوغاليسي” التي تُعتبر وجبة مفضلة لدى أهل المدينة…
قبل نهاية برنامج الرحلة، حرص المنظمون على أخذنا إلى مدينة سينوب، حيث توجد أبعد نقطة في شمال تركيا. وفي طريقنا إليها من سامسون، كانت لنا وقفة في مدينة “وزيركوبرو” الصغيرة التي تُعرف بأنها مسقط رأس جل وزراء الإمبراطورية العثمانية في إحدى الفترات.
تبدو المدينة وكأنها الزمن متوقف، بأزقتها الضيقة وبيوتها التقليدية التي تحمل عبق التاريخ. هناك، تحدثت مع بعض أهلها الذين فخروا بتراثهم العريق، ورووا قصصًا عن أمجاد أجدادهم الذين خدموا في البلاط العثماني. كانت هذه الزيارة بمثابة نافذة أخرى على جزء من تاريخ تركيا الغني والمعقد.
الحقيقة أن المرء يعود من رحلة كهذه بأسئلة أكثر من تلك التي بدأها بها. وعلى رأس الأسئلة التي ترافقك، ثم تعود معك وقد تضخّمت: لماذا يحاول الآخرون ونيأس؟