الرباط- باريس.. قصة الأزمة التي انتهت باعتراف رسمي فرنسي بسيادة المغرب على صحرائه
يستهل اليوم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مرفوقا بزوجته بريجيت ماكرون ووفد هام يتكون من 122 شخصية، زيارته للمغرب، والتي تأتي تتويجا للصفحة الجديدة في عهد العلاقات الثنائية بين البلدين، خاصة بعد الموقف الرسمي الفرنسي بدعم الوحدة الترابية للمملكة، واعترافه بسيادة المغرب على صحرائه، وهو الاعتراف الذي سيسمح بإحراز المزيد من التقدم في المشاريع التنموية والاستراتيجية للبلدين وتعميق العلاقات الثنائية بينهما.
هذا الفصل الجديد في مسلسل العلاقات الثنائية بين باريس والرباط، جاء بعد فترة جمود خيّمت على العلاقات بين المغرب وفرنسا منذ ما يقرب من 10 سنوات، لتصل الأزمة الديبلوماسية بين البلدين أوجها في السنتين الأخيرتين بسبب ملفات استعملت فيها ورقة التأشيرات والتجسس وما يمكن أن يرقى للابتزاز السياسي من طرف فرنسا تجاه المغرب، خاصة على مستوى تقارير البرلمان الأوروبي، ثم انتهاء بطريقة تعامل الرئيس الفرنسي مع كارثة زلزال 8 شتنبر 2023 الذي ضرب منطقة الأطلس الكبير السنة الماضية، حينما رفض المغرب تلقي مساعدات من عدد من الدول من بينها فرنسا.
زلزال الأطلس الكبير
مباشرة بعد الهزة الأرضية التي ضربت مناطق متعددة من المغرب، ليلة 8 شتنبر 2023، سارعت العديد من الدول ومن بينها فرنسا إلى إعلان تضامنها مع المغرب واستعدادها لإرسال مساعدات إنسانية للمملكة في هذه الظرفية الصعبة، غير أن المغرب لم يتفاعل بالطريقة التي كانت تتمناها باريس، بحيث اقتصرت السلطات المغربية على مساعدات أربع دول فقط وصفتها بالصديقة، هي المملكة المتحدة وإسبانيا والإمارات العربية المتحدة وقطر.
وأوضحت المملكة المغربية في بلاغ صدر عن وزارة الداخلية أنها استجابت لعروض الدعم التي قدمتها تلك الدول، والتي اقترحت تعبئة مجموعة من فرق البحث والإنقاذ، بعد أن أجرت تقييما دقيقا للاحتياجات في الميدان، آخذة بعين الاعتبار أن عدم التنسيق في مثل هذه الحالات سيؤدي إلى نتائج عكسية.
هذا الرد قض مضجع السلطات الفرنسية التي كانت ترى في زلزال المغرب فرصة للضغط على الرباط من أجل إعادة العلاقات بين البلدين بما يخدم مصالحها، في حين رأى المغرب أن تنظيم المساعدات الدولية في مثل هذه الحالات يبقى مسألة سيادية.
ولممارسة المزيد من الضغط على المملكة، قامت فرنسا بحشد إعلامها وفئة من طبقتها السياسية لمهاجمة المغرب، قبل أن يخرج الرئيس إيمانويل ماكرون بعد أيام في فيديو مصور يخاطب فيه المغاربة مباشرة، ودون المرور عبر القنوات الرسمية، في تجاوز للحكمة والأعراف الدبلوماسية، حسب توصيف محللين سياسيين مغاربة.
“عاصفة” كاثرين كولون
وقبل أن ينجلي غبار العاصفة التي خلفتها خرجة ماكرون، حتى أثارت وزيرته في الخارجية آنذاك كاثرين كولونا، عاصفة أخرى، بعدما صرحت لإحدى القنوات التلفزيونية عن زيارة مرتقبة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للمغرب بعد دعوة تلقاها من الملك محمد السادس، غير أن الرباط سارعت إلى نفي هذه الزيارة عبر قصاصة لوكالة المغرب العربي للأنباء نقلا عن “مصدر حكومي رسمي”.
وأفاد المصدر الحكومي الرسمي أن زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، للمغرب “ليست مدرجة في جدول الأعمال ولا مبرمجة”، معبرا عن استغرابه لكون وزيرة الخارجية الفرنسية اتخذت “هذه المبادرة أحادية الجانب ومنحت لنفسها حرية إصدار إعلان غير متشاور بشأنه بخصوص استحقاق ثنائي هام”.
جذور الأزمة
غير أن جذور الأزمة السياسية بين البلدين تمتد إلى ما يقارب العقد من الزمن، وبالضبط إلى سنة 2014، حينما حضرت عناصر الشرطة الفرنسية إلى مقر السفير المغربي في باريس، لإبلاغ المدير العام للأمن الوطني عبد اللطيف الحمومشي الذي كان حينها يشغل منصب مدير مراقبة التراب الوطني، باستدعاء صادر عن قاضي تحقيق، على خلفية شكايتين قدمتا ضده في فرنسا، بتهمة التواطؤ في أعمال تعذيب.
هذا الأمر دفع المغرب إلى استدعاء السفير الفرنسي الذي تم إبلاغه “باحتجاج شديد اللهجة”، ما جعل وزارة الخارجية الفرنسية، في عهد الرئيس السابق فرانسوا هولاند، تعرب عن أسفها لوقوع هذا “الحادث المؤسف”.
بعد هذه الواقعة عادت مياه العلاقات المغربية الفرنسية إلى مجراها الطبيعي، لكن مع وصول الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون إلى كرسي الرئاسة في أعقاب الانتخابات الرئاسية الفرنسية سنة 2017، سرعان ما بدأت الأزمة بين الرباط وباريس تطل برأسها مرة أخرى، وكانت أولى إرهاصاتها اتهام السلطات الفرنسية لنظيرتها المغربية بالتجسس على الرئيس الفرنسي ماكرون وعدد من وزرائه باستعمال برنامج التجسس الإسرائيلي بيغاسوس، وهو ما نفاه المغرب جملة وتفصيلا، قبل أن تقدم فرنسا على تخفيض حصة التأشيرات الممنوحة للمواطنين المغاربة بنسبة 50 في المائة، وهو الأمر الذي كان له وقع سيئ على المغاربة، الذين طالب عدد منهم بمقاطعة فرنسا والمنتجات الفرنسية.
هذا الشرخ في العلاقات بين المغرب وفرنسا ازداد اتساعه مع مرور الوقت، واستعملت فيه ورقة الحقوق والحريات وتبادل الاتهامات بين الطرفين، خاصة حينما صادق البرلمان الأوروبي بأغلبية كبيرة، مطلع سنة 2023، على نص غير ملزم يستهدف المغرب، داعيا إياه إلى احترام حرية الرأي والتعبير.
إنهاء مهام بنشعبون
وكانت أبرز مظاهر هذه الأزمة بين البلدين، هي إنهاء المغرب لمهام سفيره في باريس محمد بنشعبون، بعد عدة أشهر من الفراغ الدبلوماسي على خلفية تعيين هذا الأخير مديرا عاما لـ “صندوق محمد السادس للاستثمار”.
ورغم الزيارة التي قامت بها كاثرين كولونا وزيرة الخارجية الفرنسية إلى المغرب أواخر سنة 2022، بهدف تجاوز القضايا الخلافية بين البلدين، إلا أن العلاقات بين الرباط وباريس ظلت في أدنى مستوياتها منذ ما يزيد عن سنتين.
وظلت دائما قضية الصحراء المغربية تخيم على ملف العلاقات الثنائية بين الرباط وباريس، بحيث أن فرنسا التي كانت دائما تعد الشريك التقليدي للمغرب، بقيت على امتداد سنوات تقف على نفس المسافة من كل الأطراف المعنية بملف الوحدة الترابية.
ولم تقم حينها باريس بأية خطوة في تجاه دعم المغرب في ملف وحدة أراضيه، بالرغم من الإشارات التي ما فتئت الدبلوماسية المغربية توجهها إلى كل الدول الشريكة بخصوص القضية الوطنية، كان أبرزها الخطاب الملكي لـ 20 غشت 2022 الذي قال فيه الملك “إن قضية الصحراء هي النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات”.
بوادر الانفراج
لكن بوادر انفراج في الأزمة بين الرباط وباريس لاحت في الأفق مع مطلع السنة الجارية، والتي انطلقت قبل ذلك بأشهر قليلة بالإعلان عن مشاريع استثمارية ولقاءات ثنائية بين مسؤولين مغاربة وفرنسيين، ثم تعيين الملك محمد السادس لسميرة سيطايل سفيرة للمغرب في فرنسا.
وتبع هذا التعيين إشارات من مسؤولين فرنسيين عن قرب انفراج الأزمة، قبل أن تعلن الخارجية المغربية قشهر فبراير الماضي عن استقبال بريجيت ماكرون زوجة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للأميرات المغربيات الثلاث لالة مريم ولالة أسماء ولالة حسناء بقصر الإليزيه بتعليمات من الملك محمد السادس.
وبعد ذلك بأيام قليلة حل وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنييه بالرباط في زيارة لإذابة الجليد بين البلدين، التقى فيها نظيره ناصر بوريطة يوم 25 فبراير 2024، وقد راهنت باريس على هذه الزيارة لإعادة العلاقات الطبيعية بين البلدين وإذابة الجليد، بعد سنوات من التوتر.
وقد استبق سيجورنييه حلوله بالرباط، بإعلان نوايا يبدد فيها مخاوف المغرب، بتأكيده على أنه سيعمل “شخصيا” على تحقيق التقارب بين فرنسا والمغرب، متحللا من تاريخ يجره وراءه مطبوع بمحاربة المغرب داخل أروقة البرلمان الأوروبي.
وبالرغم من ذلك ظلت الرباط تنتظر تقدما جديدا في الموقف الفرنسي من قضية الصحراء المغربية، من أجل تجاوز الأزمة، على غرار ما فعلته دول كبرى قبلها من قبيل إسبانيا، ألمانيا، وامريكا.
باريس في عنق الزجاجة
لكن باريس، وجدت نفسها عالقة في عنق الزجاجة بين تحقيق مطلب الرباط والحفاظ على علاقتها مع الجارة الجزائر الفاعل الرئيسي في ملف الصحراء، خصوصا وأنها تربطها بها هي الأخرى علاقات متشعبة وملفات قوية وتعتمد عليها في مجال الطاقة، فضلا عن وجود جالية جزائرية مهمة على التراب الفرنسي.
وبالرغم من ذلك كانت باريس قد استقرت على ضرورة إعلان موقف متقدم لصالح المغرب في قضية الصحراء، وباتت تنتظر فقط الوقت المناسب لإعلان ذلك، خصوصا في ظل الفرص الاستثمارية التي باتت توفرها المملكة بحكم الاستحقاقات الدولية المرتبطة بتنظيم كأس إفريقيا 2025 وكأس العالم 2030 إلى جانب إسبانيا والبرتغال، بالإضافة إلى مشاريع الطاقة بالأقاليم الجنوبية. هذا إلى جانب انحسار وجودها بمنطقة الساحل وغرب إفريقيا.
الجزائر تكشف “اعترافا” فرنسيا
وبعد أشهر قليلة، كشف بيان صادر عن وزارة الشؤون الخارجية الجزائرية، في 25 يوليوز 2024، اعتراف فرنسا بسيادة المغرب على أقاليمه الصحراوية.
وجاء في نص البيان الجزائري أن الحكومة الجزائرية أخذت علما، (…) بالقرار غير المنتظر (…) الذي اتخذته الحكومة الفرنسية بتقديم دعم صريح لا يشوبه أي لبس لمخطط الحكم الذاتي لإقليم الصحراء المغربية في إطار السيادة المغربية.
وعبرت الخارجية الجزائرية جراء هذا القرار، عن استنكارها لما وصفته “بالقرار غير المنتظر وغير الموفق وغير المجدي الذي اتخذته الحكومة الفرنسية بتقديم دعم صريح لا يشوبه أي لبس لمخطط الحكم الذاتي لإقليم الصحراء الغربية في إطار السيادة المغربية”. موضحة أنه تم إبلاغ السلطات الجزائرية بفحوى هذا القرار من قبل نظيرتها الفرنسية في الأيام الأخيرة.
لم تعلق باريس على بلاغ الخارجية الجزائرية، كما التزمت الرباط هي الأخرى الصمت، في حين أوضح وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف بعد ذلك بأيام أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بدأ الإعداد لخطوة اعترافه بمغربية الصحراء قبل مدة، مضيفا أنه أطلع الرئيس الجزائري على الموضوع قبل شهر ونصف آنذاك.
اعتراف رسمي فرنسي
وبعد خمسة أيام من بلاغ الخارجية الجزائرية، سيعلن بلاغ للديوان الملكي في 30 يوليوز 2024. أن الجمهورية الفرنسية أعلنت اعترافها رسميا بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، وذلك في رسالة موجهة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الملك محمد السادس.
وجاء في نص الرسالة أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أعلن رسميا للملك محمد السادس أنه “يعتبر أن حاضر ومستقبل الصحراء الغربية يندرجان في إطار السيادة المغربية”.
وأكد رئيس الجمهورية الفرنسية للملك، في هذه الرسالة، والتي تتزامن مع تخليد الذكرى ال 25 لعيد العرش، “ثبات الموقف الفرنسي حول هذه القضية المرتبطة بالأمن القومي للمملكة”، وأن بلاده “تعتزم التحرك في انسجام مع هذا الموقف على المستويين الوطني والدولي”.
وأضاف المصدر ذاته، أنه تحقيقا لهذه الغاية، شدد الرئيس إيمانويل ماكرون على أنه “بالنسبة لفرنسا، فإن الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية يعد الإطار الذي يجب من خلاله حل هذه القضية. وإن دعمنا لمخطط الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب في 2007 واضح وثابت”، مضيفا أن هذا المخطط “يشكل، من الآن فصاعدا، الأساس الوحيد للتوصل إلى حل سياسي، عادل، مستدام، ومتفاوض بشأنه، طبقا لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة “.
وعلى خلفية الاعتراف الفرنسي الرسمي بمغربية الصحراء، أقدمت الجزائر لحظتها على سحب سفيرها لدى الجمهورية الفرنسية بأثر فوري، وذلك وفقا لما أوردته وزارة الشؤون الخارجية والجالية الجزائرية في بيان لها يوم الثلاثاء 30 يوليوز 2024.
الملك يدعو ماكرون لزيارة دولة
وفي 27 شتنبر 2024، أعلن قصر الاليزيه أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سيقوم بزيارة دولة الى المغرب في نهاية أكتوبر 2024 بهدف ترسيخ إعادة إطلاق العلاقات الثنائية بعد فترة طويلة من الفتور، غير أنه لم يصدر حينها أي بلاغ من الديوان الملكي يؤكد ذلك.
وأوضح الإليزيه، أن الملك محمد السادس وجه رسالة دعوة إلى الرئيس الفرنسي بهذا الموعد رحب فيها بـ “الآفاق الواعدة التي ترتسم لبلدينا” كما أوضحت الرئاسة الفرنسية.
ونقل قصر الإليزيه عن الملك قوله إن هذه الزيارة ستكون “فرصة لمنح شراكتنا الاستثنائية رؤية متجددة وطموحة تغطي عدة قطاعات استراتيجية وتأخذ في الاعتبار أولويات بلدينا”.
وفي 21 أكتوبر 2024، أعلن بلاغ لوزارة القصور الملكية والتشريفات والأوسمة أنه بدعوة من الملك محمد السادس، سيقوم الرئيس الفرنسي وحرمه بزيارة دولة للمملكة من 28 الى 30 من الشهر الجاري. وهي الزيارة التي ستكون تتويجا للاعتراف الرسمي والتاريخي للجمهورية الفرنسية بسيادة المغرب على كامل أقاليمه الصحراوية.