الديمقراطية والحرب

استطاعت الإدارة الأمريكية في الأسابيع القليلة الماضية بقيادة مبعوثيها أن تقنع دولتي الهند وباكستان بوقف إطلاق النار بينهما، بعدما انطلقت شرارة النزاع مرة أخرى في مسلسل من الصراع الذي دام عقودا.
انطلقت هذه الحلقة من الصراع بعدما اتهمت الهند باكستان بالوقوف وراء الهجوم المتطرف العنيف الذي شهدته منطقة كاشمير، والذي خلف 26 قتيلا. وبسبب ذلك، قامت الهند بضرب مناطق عدة في باكستان قالت إنها مناطق تمركز لجماعات متطرفة تقظ مضجع الهند وتهدد أمنها القومي.
لكن من المستفيد الحقيقي من هذا التصعيد الأخير؟ وما هي النتائج المحتملة لما بعد الصراع على مصير مواطني البلدين؟
ما يثير الانتباه في هذه الحلقة الجديدة من حلقات الصراع الهندي الباكستاني هو كيف استفادت مؤسسة الجيش في باكستان والهند من هذا التصعيد. ففي علم العلاقات المدنية العسكرية، تعتبر باكستان دولة بريتورية. وتعتبر الدولة البريتورية هي تلك التي يتحكم فيها الجيش في جميع دواليب السلطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، دون أن يكون هو المدبر المباشر للشأن اليومي للمواطنين؛ أي تلك التي يكون فيها الرئيس مدنيا في ظاهره، لكن الجيش يكون هو المتحكم الحقيقي في زمام الأمور كلها في البلد.
من هذا المنطلق، فمن الطبيعي أن يكون للجيش دور رئيسي في النظام الباكستاني؛ كما يمكن فهم أنه يحظى بدعم وتأييد كبيرين بين صفوف المواطنين، خصوصا في ظل الصراع المستمر بين باكستان والهند.
رغم كل ذلك، خلّفت الحلقة الأخيرة من التصعيد بين البلدين ارتفاعا في نسبة تأييد الجيش بين صفوف الباكستانيين. حيث أظهر أحدث استطلاع للرأي في باكستان أجرته مؤسسة گالوب بأن %97 من المواطنين يؤيدون أداء الجيش الباكستاني خلال الاشتباك الأخير.
اللافت أن حتى أعضاء حزب رئيس الوزراء السابق عمران خان خرجوا لدعم الجيش في مسيرات عرفتها البلاد بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين البلدين؛ بل إن عمران خان نفسه والذي كان ضحية للجيش الذي اعتقله عبر عن دعمه للجيش الباكستاني وأثنى عليه.
أما في الهند، فقد صار الجيش أكثر فأكثر في خدمة مشروع “الهندوتفا” الذي يقوده الرئيس الحالي ناريندرا مودي. حيث تعتبر “الهندوتفا” مشروعا قوميا دينيا هنديا يريد للهند أن تكون للهندوس، ويعتبر الرئيس الحالي للهند من أكبر داعميها على أرض الواقع. وقد قام مودي خلال فترة حكمه بتسخير الجيش من أجل دعم مشروعه السياسي القومي والديني في أكثر من مناسبة.
ما يبعث على القلق هو أن هذا الدعم الكبير جدا للجيش في باكستان سوف تكون له مخلفات على المسار الديمقراطي في البلاد. فمن المعروف أن من طبيعة أي مؤسسة كيفما كانت أن تتمدد وتبحث لنفسها على مساحة أكبر في المناخ الذي تنتمي إليه. وبالتالي فإن من المحتمل جدا أن تحاول المؤسسة العسكرية الباكستانية استغلال هذا الزخم الجديد من الدعم لكبح جماح القادة السياسيين المدنيين الذين يشكلون إزعاجا لها، كما من شأنها أن تقوم بالمثل تجاه الصحافيين والحقوقيين في البلد. كل هذا سوف يرجع البلاد سنوات إلى الوراء، وهي التي تتأرجح بين الانتقال الديمقراطي والسيطرة البريتورية العسكرية لعقود من الزمن.
من ناحية أخرى، فإن من المحتمل جدا أن يساهم الحزم الذي سوق الجيش الهندي لنفسه به أن يزيد من تعلقه بمشروع الرئيس مودي، مما قد يشكل خطرا حقيقيا على كل سكان الهند من غير الهندوس، وعلى رأسهم المسلمون. حيث لا يخفي أتباع “الهندوتفا” مقتهم للمسلمين الهنود، ولا يتورعون من التعبير عن رغبتهم في أن يروهم خارج الهند.
في الأخير، من الواضح جدا بأن هذا التصعيد خدم مؤسسة الجيش في البلدين، وأعطاها رصيدا جديدا تستطيع من خلاله بسط سيطرتها والتمدد على حساب مؤسسات وطنية أخرى. كما أن التصعيد سيكون له آثار سلبية على الجسم الصحافي والحقوقي في البلدين، بحيث ستعاني أجزاء كبيرة من ساكنة البلدين بسبب هذا التضييق على الصحافيين والحقوقيين.
لكن، ورغم كل هذه التخوفات، فيجب الإقرار أن لا شيء يمكن مقارنته بالخطر الذي يمكن أن تخلفه حرب شاملة بين الهند وباكستان، والتي تجنبها العالم.. على الأقل في الوقت الحالي.