“الدياليز”.. تجارة تمتصّ العروق- تحقيق
تفاصيل شبكة "فساد" ترهق صناديق الضمان الاجتماعيفي عالم يكتنفه الألم والمعاناة، حيث تصبح صحة الإنسان موضوعا للجدل والتساؤلات، يبرز الفساد كغيمة داكنة تحجب أشعة الأمل. مراكز تصفية الكلى، التي تمثل الأمل الأخير لمرضى القصور الكلوي المزمن والخيط الأخير الذي يربطهم بالحياة، تتحول في بعض الأحيان إلى محور لصراعات تتجاوز حدود الأخلاق، فبينما يعاني المرضى في صمت، يتربص المستغلون بفرص لتحقيق مكاسب ولو كانت غير مشروعة.
المآسي الخفية لهذا القطاع، تتداخل فيها المصالح التجارية مع الأرواح البشرية، مما يحول مسار العلاج إلى صفقة ربحية. وفي الوقت الذي يبحث فيه المرضى عن فرصة للحياة، يجدون أنفسهم عالقين في دوامة من الاحتيال، ومنهم من يصبح هو كذلك جزءا منها.
من خلال هذا التحقيق، تتبعنا آثار القطاع الخاص المتخصص في تصفية الكلي بالمغرب، بداية من نشأته إلى اليوم، رصدنا عوامل انتقال تصفية الكلي من المستشفيات العمومية والجمعيات الخيرية إلى رحمة القطاع الخاص، لنرسم بمعطيات دقيقة خريطة توسع قطاع بات يلتهم كل شيء حوله، بممارسات غير مشروعة بسطوة المال، في معادلة يدخل فيها الأطباء بالقطاعين العام والخاص ومهنيون في النقل وحتى المرضى أنفسهم في بعض الأحيان.
في شهادات استقيناها بصعوبة، وبمعطيات يتحدث مرضى وأطباء ومسؤولون ومسيرون، عن مسار توسع “غير شريف” تحول إلى معركة طاحنة في طريق الربح، وصل إلى مستوى بات يهدد صناديق الضمان الاجتماعي، بعد سنوات من استنزافها، في سوق لا زال ينذر بالمزيد إذا غاب من يبادر للجمه.
تحقيقنا، يرصد سعر المريض في سوق تصفية الكلي بين يدي المراكز الخاصة، وهو سعر يرتفع ليقارب العشرة آلاف درهم تارة، وينخفض إلى الألفي درهم تارة أخرى، حسب وزن المتدخل في بورصة الكلي.
وبالمعطيات والأرقام، يظهر أن القطاع الخاص، وصل إلى مستوى الهيمنة، ولا زال قادرا على التوسع فيه، لينهي بشكل نهائي دور المستشفيات العمومية والجمعيات الإحسانية والخدمات المجانية في تصفية الكلي، وليحقق أرباح غير مشروعة خصوصا مع تزايد مرضاه بعد تعميم التغطية الصحية.
وانطلاقا من معطيات حصرية، نوضح كيف تدفع الدولة ثمن هذا الفساد الذي يستشري في القطاع، وكيف يهدد نموذج التأمين الاجتماعي عن المرض في المغرب، ونستطلع آراء الخبراء، حول النماذج التي تمكنت دول أخرى من أن تحمي بها قطاعات حيوية في الصحة مثل تصفية الكلي.
الدولة ترفع يدها لصالح القطاع الخاص
واصل سوق تصفية الكلي في المغرب تطوره بشكل ملفت، حيث أنه إلى حدود يناير 2024، أصبح المغرب يحصي وبشكل رسمي وجود 39.347 شخص يعاني من القصور الكلوي الحاد الذي يستدعي التصفية، في تزايد كبير للعدد مقارنة مع السنوات التي سبقت، حيث أنه خلال هذه السنة فقط، سجلت 4.200 حالة جديدة.
عدد المرضى الخاضعين لتصفية الكلي في المغرب عرف ارتفاعا استثنائيا خلال السنوات الأخيرة، حيث أنه في سنة 1986 كان المغرب يحصي 360 حالة فقط، ارتفعت إلى 690 سنة 1990 وواصلت الارتفاع لتصل إلى 900 سنة 1995، في وتيرة بدأت ترتفع بشكل ملفت مع وصول سنة 2000، حيث أحصت هذه السنة 1500 حالة، وارتفع العدد إلى 5000 سنة 2005.
وسجلت سنة 2012 منعطفا في عدد الحالات المصابة بالفشل الكلوي في المغرب بتسجيل 13385 حالة، وواصل هذا العدد الارتفاع بتسجيل قرابة 17 ألف حالة سنة 2015.
وبين سنتي 2015 و2020، ارتفعت أعداد الحالات وأخذت إيقاعا أكبر بكثير مما سبق، لينتقل عددها مما يقارب 17 ألف إلى 20 ألف حالة، وواصلت الأرقام تأكيد تزايد أعداد المرضى، ليصلوا إلى 34 ألف و299 مريض في 2022، وارتفاع عددهم ليصل إلى 36 ألف و452 حالة في سنة 2023.
هذا الارتفاع المتواصل لأعداد مرضى الفشل الكلوي في المغرب والذين يستلزم مرضهم الولوج لمراكز التصفية لا يعكس فقط تحسن الولوج إلى العلاجات الصحية والتشخيص ولكن أيضا، يشير إلى استعجالية تطور النظام الصحي الخاص بالتصفية في المغرب، على مستوى البنية التحتية والموارد البشرية، للاستجابة للاحتياجات المتزايدة في هذا المجال.
هذا الاهتمام الكبير للقطاع الخاص بهذا المجال، يجد تفسيرا له في التوقعات بتزايد المقبلين على التصفية في السنوات المقبلة، بالنظر لارتفاع نسب الإصابة بالأمراض المسببة للفشل الكلوي بالمغرب.
وتشير المعطيات إلى أن داء السكري الذي يحمله مليوني ونصف مغربي، يأتي على رأس مسببات الفشل الكلوي في المغرب، بنسبة 32.79 بالمائة، يليه ارتفاع ضغط الدم بنسبة 28.2 في المائة، وتليه أمراض أخرى بنسب أقل.
توزيع مرضى الفشل الكلوي حسب الجهات
يظهر أن جهة طنجة تطوان الحسيمة والداخلة واد الذهب تضم العدد الأكبر من المرضى في كل مليون نسمة، بعدد 1009 و 1057، ما يتم تفسيره بانتشار أكبر للأمراض المسببة للفشل الكلوي في الجهتين، أو بوجود مستوى أكبر من القدرة على تشخيص المرض في هذه الجهات دون غيرها.
جهات الشرق وفاس مكناس وبني ملال خنيفرة والرباط سلا القنيطرة والدار البيضاء سطات، هي الأخرى تسجل أعداد مرتفعة من الإصابات، تتراوح ما بين 826 و 1002، ما يتم تفسيره بالتركيز الكبير للساكنة في هذه الجهات مع ارتفاع نسب الولوج إلى الخدمات الصحية، ما يمكن من تشخيص أسرع وأوسع لانتشار الداء.
وفيما يخص الجهات الثلاث، مراكش آسفي ودرعة تافيلالت وسوس ماسة، فإنها تمثل نصف ما تسجله الجهات الأخرى من المصابين بالفشل الكلوي المزمن، لضعف تركيز الساكنة وجودة الخدمات الصحية المقدمة إليها مقارنة مع الجهات الأخرى شمالها، أما جهتي كلميم واد نون والعيون الساقية الحمراء، فإنها تمثل أضعف الأعداد، ما بين 457 و 520 مصاب في المليون، لضعف تركيز الساكنة في هذه الجهات، ومحدودية الولوج للخدمات الصحية.
سوق مغري بانفجار أعداد المقبلين عليه
مع نسبة نمو سنوية تصل إلى 6 بالمائة لمرضى القصور الكلوي المزمن في المغرب، يتوقع ارتفاع أعداد الخاضعين لجلسات تصفية الدم من 39 ألف إلى 42 ألف خلال السنوات الخمس المقبلة، وقد يرتفع إلى 47 ألف في حالة وصول نسبة نمو أعدادهم إلى 8 بالمائة.
ومما ينذر بتزايد أعداد المقبلين على تصفية الكلي بالمغرب، استمرار المغرب في تسجيل أرقام مقلقة من مرضى السكري، بحيث يصل عدد المغاربة المصابين به إلى 2.5 مليون نسمة، وتقدر الأرقام أن مليوني مغربي مصابون به دون معرفتهم بذلك، فيما تشير الإحصائيات إلى أن السكري، يأتي على رأس الأمراض المزمنة التي تقف وراء الإصابة بالقصور الكلوي في المغرب.
الأمراض المسببة للفشل الكلوي في المغرب
لذلك يقول نجيب أمغار، الأخصائي في أمراض الكلي إن ارتفاع أعداد المصابين في المغرب بالسكري، سيخلف بشكل أوتوماتيكي، تزايدا في أعداد المقبلين على جلسات التصفية مستقبلا.
وتمنح هذه التوقعات صورة أوضح حول حجم سوق تصفية الدم في المغرب خلال السنوات الخمس المقبلة، ما يقدم للمستثمرين محفزا إضافيا الاستثمار في القطاع.
التصفية.. من القطاع العام إلى يد الخواص
ابتداء من سنة 1975 وإلى غاية سنة الألفين، عرف عدد مراكز تصفية الكلي في المغرب تطورا عاديا، مع تفوق القطاع العام على القطاع الخاص، حيث كان القطاع العام أول مقدم لخدمات تصفية الكلي في المغرب.
وانطلاقا من سنة 2000، تظهر المعطيات تطورا ملحوظا لأعداد المراكز الخاصة لتصفية الكلي، مع التوجه العام نحو خوصصة القطاع، وهو توجه برز بشكل أكبر ما بعد سنة 2010، حيث بدأت الفجوة بين القطاعين العام والخاص تتوسع وتتعمق بشكل أكبر، بعدما التهم القطاع الخاص الحصة الأكبر من سوق الخدمات المقدمة لمرضى الفشل الكلوي، ليصل مع سنة 2024 لضعف ما يقدمه القطاع العام، حيث يحصي المغرب حاليا 455 مركز، منها 311 مركز خاص، و30 آخرين في طور التشييد، مقابل 144 مركز عمومي.
تطور العرض الصحي المرتبط بتصفية الكلي في المغرب، وخصوصا في القطاع الخاص، ارتبط بعدد من العوامل، كان آخرها تعميم التغطية الصحية “AMO”، وهي الخطوة التي لعبت دورا أساسيا في الولوج إلى العلاجات، بجعل خدمات تصفية الكلي في المتناول، ما رفع الطلب عليها.
بالموازاة مع ذلك، ارتبط العدد المتزايد لمراكز تصفية الكلي بارتفاع أعداد الأطباء المتخصصين في أمراض الكلي، ما ساهم في تدعيم العرض المقدم للمرضى.
تأثير تعميم التغطية الصحية على العرض الصحي لمرضى الفشل الكلوي
تعميم التأمين الإجباري عن المرض AMO مثل إصلاح هيكلي للنظام الصحي في المغرب، وذلك بتوسيع الولوج للعلاجات ورفع أعداد المستفيدين من التغطية الصحية، بما يشمل تغطية واسعة لعلاجات تصفية الدم، ما يترجم ارتفاعا في الطلب على خدمات تصفية الكلي.
كما أن انتقال المستفيدين من نظام “RAMED ” نحو ” CNSS” ركز التكفل بهم في يد نظام واحد للتغطية الصحية، ما مكن من تبسيط الإجراءات الإدارية والمالية بالنسبة لمراكز التصفية الخاصة ومكن كذلك من رفع أعداد زبنائها بشكل كبير جدا.
وفي ظل الاستعداد لإدماج نظامي “CNOPS ” و” CNSS” مستقبلا، فإن توحيد أنظمة التعويض والتكفل بالنسبة لقاعدة واسعة من المستفيدين من خدمات تصفية الكلي، قد يمنح رؤية مالية أوضح لمراكز التصفية الخاصة، ويسمح لها بقدرة أكبر على التفاوض حول تعريفة موحدة مع أنظمة التغطية الصحية.
كل هذه التحولات، مثلت فرصة مهمة أمام المستثمرين الراغبين في التوسع في السوق أو لدخولهم، وذلك للاستجابة للطلب المنتظر على خدمات القطاع الخاص، بعدما أخذت الدولة خطوة للوراء، بالتراجع عن استثماراتها السنوية في القطاع، وتراجع نسب دعمها للجمعيات التي تقدم خدمات التصفية للمستفيدين مجانا، كما أن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية والتي كانت الممول الرئيسي للجمعيات، تراجع دعمها لها في السنوات الأخيرة. في خطوات متزامنة كلها تصب في جيب القطاع الخاص.
كرونولوجيا انتقال تقديم خدمات تصفية الكلي في المغرب، والتي تبينها الأرقام في السنوات الأخيرة، تظهر أن القطاع الخاص ضاعف نموه مقارنة مع القطاع العام، ليصل في سنة 2020 إلى الاستحواذ على 53 بالمائة من القطاع، مقابل تقلص هامش القطاع العام إلى 35 بالمائة، واقتراب الجمعيات من الاختفاء بشكل كلي سنة 2020، في وضع زاد سوءا مع حلول سنة 2024.
القطاع الخاص يبرمج وفاة الجمعيات
في البحث عن أسباب حالة الاختناق والتراجع الكبير للجمعيات المتخصصة في تصفية الكلي، قادتنا الأقدار للحديث إلى من تحمل مسؤولية إحدى هذه الجمعيات لسنوات، لينقل لنا تفاصيل من هذا التراجع الكبير في أدوار واحدة كانت قبل 15 سنة تعد رائدة ونموذجا وطنيا في هذه الخدمة، وتستنسخ برامجها واستراتيجيتها لتستفيد منها جمعيات مدن أخرى.
يقول هذا المسؤول السابق الذي فضل عدم ذكر اسمه، إن جمعيته وباقي الجمعيات التي أحدثت لتقديم هذا النوع من الخدمات أواخر سنة 2008 وفرت لها الدولة كل الإمكانيات اللازمة لتقديم خدمات بجودة عالية لمرضى القصور الكلوي، وحظيت كذلك بثقة المحسنين، وتمكنت من تطوير خدماتها بشكل كبير لتوفر الإمكانيات وحكامة تسييرها الداخلي.
ويحكي المتحدث ذاته، أن هذه الجمعية، كانت قادرة على استقبال 40 مستفيد من خدمة تصفية الدم في حصة الصباح، و40 آخرين في حصة المساء، والتي تتم برمجتها بعد تغيير وتعقيم الآليات المستعملة، وفي ظروف صحية ممتازة بفضل الإمكانيات المرصودة لها، سواء البشرية أو المادية.
هذه الجمعية، كانت تشتغل ستة أيام في الأسبوع، من الإثنين إلى السبت، لتغطية الخصاص الموجود، ولتقليص لائحة الانتظار الخاصة بالمرضى الذين ينتظرون كرسيا للاستفادة المجانية.
الجمعية، كان لها استعداد لتوسيع خدماتها بشكل أكبر، بإضافة حصة تصفية أخرى ليلا، وتوسيع خدماتها لتمتد على كل أيام الأسبوع، مقابل ضمان تعويض مادي للطاقم الذي سيشتغل ساعات إضافية، إلا أنه لم تتم الاستجابة لطلبها “لم يتم تمويلها ولا توسيع طاقمها، وبدل مدها بالطاقم المؤهل القادر على الرفع من خدماتها، يتم بعث متدربين لا يمكن تكليفهم سوى بمهام الاستقبال أو مرافقة المستفيدين أو جر العربات لعدم توفرهم على أي تكوين طبي”.
ومع تراجع التمويل والتأهيل، من جهة، واقتناص المراكز الخاصة للمستفيدين خصوصا بعد تعميم التغطية الصحية، يقول المتحدث ذاته إن هذا المركز الذي كان يعج بالمستفيدين قبل سنوات، بات شبه فارغ، وحتى من بقي فيه من المرضى المستفيدين يقول إنهم “يتلقون باستمرار عروضا من القطاع الخاص، والحقيقة نستغرب بقاءهم في الجمعية أمام الإغراء”.
مراكز القطاع الخاص حسب الشخص نفسه لا تقدم عروضا للمستفيدين من الجمعيات فقط، وإنما تتسابق لاستقطابهم، وهو ما يعبر عنه بالقول “القتيلة بين المراكز على مرضانا”.
وأمام هذا الوضع، يقول المسؤول السابق إن هذا المركز التابع لجمعية، والذي كان يطمح لتوسيع نشاطه وخدماته، قلص أيام عمله، ولا يستبعد أن يتوقف بشكل كلي في وقت قريب، أمام التراجع الكبير للمقبلين عليه.
مراكز بملايين دشنها الملك قد تتوقف
بلغة أوضح وصوت أعلى، يتحدث مصطفى فوزي، واحد من أبرز وجوه العمل الجمعوي الخاص بتصفية الكلي في المغرب، ويشرح بلغة الأرقام، إن جمعية الأمل التي يرأسها، والتي تسير أزيد من 30 مركزا لتصفية الكلي بالمغرب، فقدت مرضاها، ويقول متحدثا عن هذا “لدينا 32 مركزا وطنيا، كنا نستقبل 1200 مريض الآن لا نتجاوز الـ500″، متهما مراكز القطاع الخاص بالوقوف وراء تراجع عمل الجمعيات والمستشفيات العمومية العاملة في هذا المجال، وبممارسات يؤكد على أنها غير مشروعة، ويقول “المراكز الخاصة تتسارع لاستقطاب المرضى وبكل الوسائل، المريض يمنح له التنقل وحتى كبش العيد”.
وأمام هذا الواقع المأزوم الذي أفرغ الجمعيات من مرضاها لصالح القطاع الخاص، يقول فوزي إن جمعيته وفاعلون جمعويون آخرون، اختاروا سياسة جديدة للحفاظ على نشاطهم، تعتمد على الابتعاد عن المدن الكبرى حيث تشتد المنافسة بين المراكز الخاصة، والتوجه نحو مناطق أبعد ، مثل تنغير والسمارة والاستعانة بأبناء المنطقة، لإقامة مراكز تلبي احتياجات الساكنة وتغنيها عن التنقل لمراكز تصفية أبعد.
وعلى الرغم من ذلك، يقول الحاج فوزي إن هذا التوسع الكبير والسريع للمراكز الخاصة بشكل يصفه بـ” effet téléboutique” وبوسائل يشدد على أنها غير مشروعة، لا زال يهدد المراكز الجمعوية الخاصة بتصفية الكلي، ويصرح محذرا بالقول “إن مراكز دشنها الملك من العيب أن تتوقف”، ومتسائلا عن مصير الملايين التي رصدت في تهيئة هذه المراكز ومصير المعدات التي لا زالت تؤثث فضاءاتها المهجورة.
وعلى الرغم من كل هذه التحديات، أمل إحياء هذه الجمعيات لا زال موجودا حسب قوله، حيث سجل القائمون عليها عودة لبعض المرضى من المراكز الخاصة، بسبب ارتفاع مؤشرهم الاجتماعي الذي حرمهم من التغطية الصحية، كما أن ضبط القطاع بقوانين مؤطرة، يمكن أن يجعل مكانا لكل الفاعلين فيه، سواء مراكز خاصة أو عمومية أو جمعيات خيرية.
غير أنه ربما ما لا تعرفه الجمعيات، أنه حتى “ضحايا المؤشر” قد يعودون للمراكز الخاصة، وذلك بعدما فتح أصحاب هذه المراكز حوارا مباشرا مع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، لاستثناء المصابين بالأمراض المزمنة من “لعبة المؤشر”، بحجة عدم التسبب في تعثر جلسات علاج توقفها يؤدي بشكل مباشر وسريع إلى تدهور كبير في صحة المريض وقد يوصل لوفاته.
كما أن أصحاب مراكز تصفية خاصة، ابتدعوا حيلة للالتفاف على المؤشر، وذلك بدفع اشتراك المريض في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، لضمان بقائه ضمن أوفياء المركز.
تفاصيل مكونات حلقة “الفساد”
تطور المراكز الخاصة لتصفية الكلي في المغرب، والذي جاء بجزء منه تلقائي، بسبب تراجع تمويل الجمعيات وتراجع استثمار الدولة في القطاع العام الموجه للتكفل بمرضى هذا الداء وتراجع دعم المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وبسبب تعميم التغطية الصحية التي تسمح للمرضى بالتوجه للقطاع الخاص والاستفادة من خدماته، تقابله عوامل “غير طبيعية”، وممارسات يسميها المهنيون “غير أخلاقية” في تطوير خدمات هذا القطاع واقتناص المراكز للمستفيدين منها، من الجمعيات أو المستشفيات العمومية أو مراكز منافسة.
تبدأ حلقة توجيه المستفيدين من القطاع العام للقطاع الخاص في المستشفيات العمومية، حسب ما استقيناه من أفواه المستفيدين وحتى بعض الإداريين في القطاع العام، حيث يقولون إن بعض الأطباء في مراكز التصفية العمومية، يوجهون المستفيدين نحو مراكز خاصه بعينها، مقابل عمولة للطبيب تصل إلى 8000 درهم عن كل مريض جديد.
هذا “النظام” الذي بات متعارفا عليه في ممارسة يومية يعرفها المرضى بهذا الداء، يشمل سيارات الإسعاف، وسائقي سيارات الأجرة المتخصصين في نقل مرضى القصور الكلوي مجانا، والذين يتوقفون أمام مراكز التصفية وعدد منهم جعل من نقل مرضى هذا الداء تخصصا له، ويضع إعلانا على واجهته ” نقل مجاني خاص بمرضى الغسيل الكلوي”.
فكرة مشاركة بعض سيارات الأجرة في حشد المرضى لمركز معين، تقوم على اقتناصهم بعد الخروج من مركز تصفية الكلي، وإقناعهم بالتوجه نحو مركز آخر، ونجاح عملية الاستقطاب يعني حصول السائق على عمولة من المركز تصل إلى 2000 درهم لكل زبون جديد.
دخول سائقي سيارات الأجرة على الخط وبقوة في معركة الاستقطاب بين المراكز، دفع بعض المراكز لتخصيص وسائل نقل للمستفيدين منها، لحمايتهم من حرب الاستقطاب المستعرة بين المراكز.
استعمال المراكز الخاصة لسيارات الأجرة أو النقل الخاص، لا يقتصر على اقتناص مرضى جدد، ولكنه يسمح لهم بنقل مرضى لتلقي جلساتهم في مراكزهم، ولو كانوا في مناطق بعيدة، وعن هذا يقول فوزي “يمكنك أن تجد مريضا يتم نقله من حي مولاي رشيد في الدار البيضاء لتلقي جلسات علاجه في أحد مراكز أنفا”.
الأطباء في القطاع الخاص لم تستثنيهم الشهادات من قائمة المشاركين في هذه الحلقة، كما أطباء القطاع العام المشاركين في حملة توجيه المرضى نحو المراكز الخاصة، وتصل عمولة الأطباء الذين يقبلون اللعبة إلى 8000 درهم للمريض الواحد.
إضافة إلى ذلك، فعدد من الأطباء العاملين في المستشفيات العمومية الكبرى، معروفون بالممارسة داخل المراكز الخاصة، مما يجعل منهم “بالوعة” استقطاب لمرضى القطاع العام نحو المراكز الخاصة.
ومن أكبر المفاجآت التي تحملها رحلة تفكيك الشبكة، مشاركة المرضى أنفسهم فيها، حيث يقبل بعضهم التواطؤ مع مراكز خاصة، بالانتقال إلى مراكز أخرى لأخذ حصة علاج، ليستثمروا وقتها الذي يمتد لأربع ساعات، في إقناع المرضى بالتوجه نحو مركز معين، على أن يأخذ المريض المشارك عمولة عن كل شخص ينجح في استقطابه.
مشاركة المرضى في حملة الاستقطاب لا تشمل المراكز المنافسة، وإنما تمتد كذلك للمراكز العمومية والتابعة للجمعيات، وهو ما أكده فوزي في حديثه إلينا، وقال إن جمعيته وضعت شكايات لدى المصالح الأمنية في حق مرضى بسبب استقطابهم لمرضى الجمعية لصالح المراكز الخاصة، ويضيف في هذا السياق أن “الفشل الكلوي مرض مميت لكن هناك مرضى في وضعية هشاشة يقبلون الاستفادة، ومنهم من لا يعرف أنه يلعب بصحته”.
ثغور الربح الستة
الحرب الطاحنة بين المراكز الخاصة، محركها الأساسي الربح، لكون كل مستفيد جديد، يعني استفادة المركز من تعويض من صناديق التغطية الاجتماعية يصل إلى 850 درهم عن كل حصة، إضافة إلى الكثير من هوامش الربح، المشروعة وغير المشروعة، التي يمكن أن يجنيها المركز من وراء كل شخص، وهي هوامش لا تعد ولا تحصى، ومن خلال الحديث إلى الكثير من الأطباء والمستفيدين والمتدخلين في دوائر صناعة هذه الخدمات، جمعناها في خمسة جوانب.
أولا تضخيم عدد الجلسات، حيث يقوم المركز بتسجيل عدد جلسات غسيل الكلى أكثر من تلك التي حصل عليها المريض فعليا، على سبيل المثال، إذا احتاج المريض إلى 13 جلسة مضمونة التعويض من صناديق الضمان الاجتماعي، قد يحصل على 11 جلسة فعليا، على أن يتواطأ مع المركز لتسجل استفادته من العدد كاملا، ويأخذ المريض نفسه، هذا الفارق الذي تؤديه صناديق الضمان الاجتماعي، وهو ما يقارب الألفي درهم.
وتحولت هذه الألفي درهم، إلى ما يشبه “المكتسب” للمرضى، في عرف غير معلن ولكنه عمليا شبه معمم على المراكز، ليصبح المريض، يأخذ “ثمنا” لوفائه لمركز محدد.
هذه الحيلة، وحسب ما استقيناه، قد يشارك فيها المريض نفسه في بعض الحالات وبرضاه، حيث يحدث أن يوافق مرضى على تضخيم فواتيرهم، مقابل حصولهم على جزء من هذه العائدات.
ثانيا، إضافة علاجات غير ضرورية، حيث أن المركز يضيف على الفاتورة تكاليف أدوية أو علاجات لم تكن ضرورية أو لم تستخدم فعليا. مثلا، قد تضاف تكلفة دواء باهظ الثمن لم يكن المريض بحاجة إليه، وذلك بهدف زيادة المبلغ الإجمالي للفاتورة للحصول على تعويض أكبر من صناديق الضمان الاجتماعي أو التأمين أو من المريض نفسه.
ثالثا، استخدام معدات وأجهزة غير مكلفة ولكن تسعيرها على أنها باهظة، حيث قد يستخدم المركز أجهزة أو مواد طبية منخفضة التكلفة ولكنه يضيفها إلى الفاتورة بتكلفة أعلى كما لو كانت معدات باهظة الثمن، بهدف الاستفادة من الفارق بين التكلفة الفعلية والتكلفة المزورة، في عملية تتم بتواطؤ وتنسيق مع الموردين أنفسهم.
كما أن عددا من المراكز، بدأت تستعمل آلات تصفية مستعملة، وسط تساؤل، كيف يتم إدخالها للمغرب.
ومن بين أوجه هذه العملية، توجه المراكز نحو استخدام المستهلكات الأقل كلفة، حيث يتراوح سعرها ما بين 110 و75 درهم، وشراء المركز لـ 12000 مستهلك الأقل كلفة سنويا، بحكم أن معدل الحصص التي يجريها مركز متوسط شهريا يقارب الألف، يمكنه من توفير ما يقارب الـ420 ألف درهم، وهو هامش ربح يصبح أكبر بكثير في المراكز التي تجري 3000 حصة شهريا.
رابعا، إضافة جلسات وهمية، حيث يسجل المركز خدمات لم يتم تقديمها أبدا، ثم يقوم بإدراجها في الفاتورة، لتحصيل أموال من مؤسسات الضمان الاجتماعي مقابل خدمات غير موجودة.
ويبقى من أغرب ما سمعناه من شهادات، عن مركز فوتر 4 حصص على شخص توفي، لكنه لا يبدو غريبا بالرجوع إلى تقرير سابق للمجلس الأعلى للحسابات، صدر سنة 2018، يرصد فوترة مراكز تصفية خاصة لحصص مرضى متغيبين، ويؤكد تسجيله لحصص وهمية بتواريخ تصادف أيام الآحاد والأعياد.
خامسا، من أخطر الاختلالات التي رصدناها وسمعنا عنها من المرضى والمهنيين، استعمال مراكز خاصة بتصفية الكلي لمعدات رديئة الجودة، لانخفاض تكلفتها، وخصوصا بعض المستهلكات القادمة من الصين، بأسعار تراها المراكز تفضيلية تقدر بـ75 درهم، على الرغم من يقينها من تواضع جودتها، أو رداءتها.
خطورة التوجه نحو هذه المعدات الصينية، حسب خبير تحدثنا إليه، يتمثل في كونها توزع في المغرب من طرف شركات غير معروفة، وبمكونات مكتوبة باللغة الصينية ما يصعب معرفة تفاصيلها لمقارنتها مع المنتجات الألمانية أو اليابانية المعترف عالميا بفعاليتها والممثلة في المغرب من قبل شركات معروفة وتبدأ أسعارها انطلاقا من 110 درهم.
هذا الاختلاف في جودة المعدات المستخدمة لا يمس السعر فقط، ولكنه ينعكس بشكل مباشر على صحة المريض، ووفقا لطبيب أمراض كلي تحدثنا إليه فإن “جودة المعدات تظهر في التحاليل وفي الحالة العامة للمريض وجودة حياته، حيث تساهم في تحسينها، مقارنة مع المعدات الرديئة التي بالكاد تضمن بقاء المريض على قيد الحياة ولكن وكأنه جثة حية”.
هذا التدهور في صحة المريض الذي يعود بشكل أساسي لجودة المعدات المستخدمة في علاجه والتي يختارها المركز الذي يتلقى فيه الرعاية، لا يؤدي المريض فقط ثمنه من صحته وحياته، ولكنه وضع يستنزف كذلك الصناديق الاجتماعية، بوصول المريض إلى مرحلة تستدعي استشفاءه مع وصفات طبية مكلفة، وحاجة متكررة للدم.
ويقول الطبيب ذاته: “لا يمكننا مقارنة المنتجات عالية الجودة بالرديئة، لأن صحة المريض تعكس هذه الجودة ومستواها بشكل مباشر، ويحدث أن نستقبل مرضى من مراكز أخرى في حالة صحية متردية، تعود بشكل أساسي لنوعية المياه والمعدات التي استخدمت في حصص علاجهم”.
سادسا : من بين أبرز أوجه الاختلالات في القطاع، مشاركة بعض مختبرات التحاليل في تزوير نتائج تحاليل المرضى بناء على طلب طبيب الكلي المعالج ويدفع ثمنها، ما يسمح له بالظهور في صورة “الطبيب السخي” أمام مريضه، غير أن الحقيقة أن التزوير يسمح له بتدبيج وصفات طبية بأدوية باهظة الثمن، يتم تعويضها بنسبة 100٪ من طرف صناديق الضمان الاجتماعي، ويشرف مركزه على إعادة بيعها على شكل وحدات لمرضى آخرين.
ويتعلق الأمر هنا بشكل خاص بـ”الإريثوبوتين” باهظ الثمن، والذي يتم وصفه لمرضى فقر الدم الحاد، وهو مستوى يصل إليه الكثير من مرضى الفشل الكلوي.
أكبر هوامش الربح
من أكبر هوامش الربح في مراكز تصفية الكلي الخاصة، هوامش ربح المرتبطة بالمعدات وخصوصا الفلاتر المستعملة في آلات التصفية.
هذه الفلاتر تستخدم في جلسات تصفية الدم لمرضى الفشل الكلوي لتقليل المخاطر المرتبطة بتراكم هذه السموم، وتعمل على إزالة الإندوتوكسين الذي يمكن أن يسبب التهابات خطيرة.
ويشير العديد من المطلعين ممن تحدثنا إليهم، إلى أن العديد من المراكز، توفر هوامش ربح كبيرة من خلال التأخر في استبدالها، أو استخدام أنواع تقل جودة لتوفير هوامش ربح، أو عدم استعمالها أصلا.
التأخر في استبدال هذه الفلاتر يحول لونها إلى الأزرق حسب الشهادات التي استقيناها، ويؤثر بشكل مباشر على صحة المرضى المستفيدين من خدمات المركز، حيث يشعر المريض بزيادة التعب، والغثيان، والصداع، وأعراض أخرى.
وسمعنا إحدى الشهادات التي جاء فيها أنه بسبب تحول لون الفلتر إلى اللون الأزرق لقدمه وتجاوز فترة صيانته، فإن كل المرضى في قاعة التصفية دخلوا في نوبات قيئ بشكل جماعي.
هذا التأخر في تغيير الفلاتر، لا تقف وراءه المراكز لوحدها، بل إن بعض شركات الصيانة تتواطأ في عملية الربح غير المشروع، من خلال إنجاز تقارير صيانة غير حقيقية.
بماذا يرد الأطباء
على الجانب الآخر من الأزمة، يرى الأطباء أن الأزمة الحقيقية هي المرض نفسه، الفشل الكلوي، وأن الحل الحقيقي هو فتح المغرب لباب زرع الكلي والذي لا زال ضعيفا في المغرب، فيما يتمسكون بكون الاختلالات عادية وليست بالمستوى الذي يستدعي جعلها قضية كبرى، وأن الرقمنة، ضبطت القطاع والوزارة تقوم بدورها تجاه من يثبت اختلاله بسحب رخصة الممارسة من يده.
وفي حديثه إلينا، قال نجيب أمغار الأخصائي في أمراض الكلي الكاتب العام للمجلس الوطني للهيئة الوطنية للأطباء إن الحديث عن هذه الاختلالات في المراكز الخاصة لتصفية الكلي في المغرب هو “خوض للمعركة الخطأ” و”اصطياد في الماء العكر”.
ويؤكد أمغار، على أن الحديث عن هذا الموضوع في المغرب، يجب أن يكون من باب التحسيس بمخاطر توسعه، خصوصا أن البلاد تسجل واحدة من أعلى نسب الإصابة بالسكري وارتفاع ضغط الدم في المنطقة، ما ينذر بارتفاع عدد المقبلين على مراكز التصفية بالآلاف سنويا.
“يجب أن نرى المشاكل الحقيقية والإنجازات الحقيقية” حسب البروفيسور أمغار، والذي يعود بذاكرته إلى الوراء ليقول إنه قبل سنة 2000، كانت المنظومة الصحية في المغرب لا تتكفل سوى بـ35 بالمائة من مرضى القصور الكلوي فيما تموت البقية.
وبالنسبة للأخصائي في أمراض الكلي، فإن الأطباء يتحملون عبء كبير “يتعبون بمشاهدة هذه المآسي كل يوم، ومشاهدة مرضى فقراء لا يستطيعون تحمل أعباء مرض مكلف”، ويدافع كذلك على أصحاب المراكز الخاصة الذي يعد واحدا منهم، ويؤكد على أن التعريفة الوطنية المرجعية المحددة في 850 درهم في القطاع الخاص، لا تغطي حسب قوله سوى تكلفة المستهلكات المستعملة في عملية غسيل الكلي.
ويفضل أمغار، التركيز على فكرة واحدة، وهي أن الوصول إلى مرحلة غسيل الكلي يعني الفشل، وأن العمل على جميع المستويات، يفترض أن يتم تركيزه على تفادي الوصول إلى هذه المرحلة وليس تدبير عملية غسيل الكلي، وذلك عن طريق التوعية الواسعة، وتجنيب الناس أسباب الوصول لهذا المرض المزمن، بالتخفيف من نسب الإصابة بالسكري وضغط الدم والسمنة التي تؤدي للسكري، إلى جانب توسيع التغطية الصحية والتشجيع على الاشتراك فيها، وذلك ليتمكن المرضى من تغطية مصاريف هذا المرض عالي التكلفة.
أما عن الجمعيات العاملة في المجال، فيرى أمغار أن “دورها انتهى” بعد تعميم التغطية الصحية التي باتت تسمح للمريض بالتوجه للقطاع الخاص، مؤكدا على أن المراكز الخاص، بأعدادها الحالية وقدراتها على التطور، قادرة على التكفل بأعداد المرضى الموجودين في المغرب.
هل توقف ربح المراكز الخاصة فعلا!
في الوقت الذي يقول أمغار إن المراكز الخاصة لا تحقق أرباحا من وراء ثمن الحصة التي تؤديها صناديق الضمان الاجتماعي طبقا لتعريفة وطنية، والمحددة في 850 درهم، تشير المعطيات إلى أن أكبر نفقات المراكز تتوجه نحو مستهلكات غسيل الكلي والتي تراجع سعرها، وكتلة الأجور التي لم تتغير، فيما انفجر عدد المرضى، ليصبح ربح المركز(profitabilité) لا يقل عن 30 بالمائة من رقم معاملاتها، ويقول أحد مصادرنا تعليقا على هذه الأرباح إن “الجميع يعرف في المغرب أن مركزا لتصفية الكلي يعني 25 مليون سنتيم في الجيب شهريا أو أكثر”.
ثقب يهدد توازنات الأنظمة الاجتماعية
هذه الشبكة الواسعة من الممارسات الفاسدة التي تمس جل المتدخلين في القطاع، باتت تلقي بأثرها بشكل مباشر على أنظمة التغطية الاجتماعية، خصوصا بعد تعميم التغطية الصحية، وهو الإجراء الذي سمح للآلاف من المرضى الذين كانوا يتوجهون نحو المستشفيات العمومية والجمعيات للحصول على جلسات تصفية مجانية، لتغيير وجهتهم نحو مراكز التصفية الخاصة، والتي تتكفل صناديق التغطية الصحية بمصاريفها.
وتظهر البيانات أنه لما وضع المغرب قدمه الأولى في مسار توسيع التغطية الصحية في سنة 2020، مثل تصفية الكلي ثالث خدمة تستنزف ميزانية الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بنسبة 16 بالمائة، بعد التعويضات عن الأدوية وخدمات الاستشفاء حسب التقرير الإحصائي الخاص بالتأمين الإجباري عن المرض لسنة 2020، ليصل حسب آخر رقم حصلنا عليه لسنة 2023، إلى التكفل بـ25795 مريض، بميزانية تصل إلى 2.6 مليار درهم.
تمثل خدمات غسيل الكلى جزءًا مهمًا من ميزانية الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، حيث تتطلب تكاليف مرتفعة للعلاج المستمر، وتشمل هذه التكاليف الجلسات المنتظمة، الأدوية، والرعاية الصحية المرتبطة بالفشل الكلوي، ويتوقع أن يتزايد تأثيرها على ميزانية الصندوق، مع ارتفاع أعداد من يحتاجون إلى هذا النوع من العلاج.
كذلك الشأن بالنسبة لصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي ” CNOPS”، والذي يعتمد خدمة الثالث المؤدى، بما يسمح له بأداء تكلفة حصة التصفية للمراكز الخاصة محل المؤمن، فإن تصفية الكلي تعتبر ثالث خدمة تستنزف ميزانيته، بنسبة تصل إلى 15 بالمائة من مجموع مصاريفه في هذا الإطار بعد خدمات الاستشفاء والأدوية، وذلك بميزانية وصلت سنة 2023 إلى 487.602.523 درهم، وهي ميزانية ترتفع إلى 488.421.318 درهم بإضافة تغطيته للعلاجات العادية لمرضى القصور الكلوي.
وفي ظل ما تعانيه صناديق الضمان الاجتماعي في المغرب من عجز، تتعالى الأصوات للتحذير من استنزاف ميزانيتها في سوق تصفية الكلي، في ظل ما يحوم حوله من مظاهر فساد، وهو كلام يقال بصوت خافت بين المهنيين، وعبر عنه مصطفى فوزي بوضوح في حديثه إلينا بالقول “إن هذه الممارسات تستنزف أنظمة الحماية الاجتماعية، والموظف يؤدي ثمنها من جيبه، لذلك يجب أن تتوقف”.
القصور الكلوي إضافة إلى باقي الأمراض المزمنة في المغرب، والذي يمثل المصابون بها 3 بالمائة من نسبة المرضى المؤمنين، يستهلكون أكثر من 50 بالمائة من الميزانية المخصصة للتغطية الصحية، حسب ما أعلن في المؤتمر الطبي الوطني للجمعية المغربية للعلوم الطبية في فبراير 2024.
تحدد التعريفة المرجعية للتعويض أو تحمل حصص تصفية الكلي بالنسبة لصناديق الضمان الاجتماعي في 850 درهم بالقطاع الخاص، يتم تحمل تكاليفها عن طريق تحمل المصاريف ” la prise en charge”.
إلا أن هذا المبلغ لا زال يثير الجدل، بين المراكز الخاصة التي تراه غير كافي، وفاعلون آخرون يؤكدون على أنه قادر على تغطية أرباح المراكز الخاصة ويتجاوزها.
وفي السياق ذاته، علق الدكتور أمغار على هذه التعريفة، وانتقدها بالقول إنها “لم تتطور منذ 1985، يتم دفع 850 درهم لحصة تدوم أربع ساعات، وهو مبلغ لا يغطي سوى أثمنة المستهلكات الطبية”.
في المقابل، يقول مصطفى فوزي، إن دراسة أجريت في المغرب عن تكاليف حصة تصفية الكلي، خلصت إلى أن تكلفة الحصة الواحد تتراوح ما بين 400 و 500 درهم، في حين أن ثمنها في بعض المراكز الخاصة، أصبح يتجاوز سقف الألف درهم حسب قوله. مريض الفشل الكلوي يكلف سنويا ما بين 20 و 25 مليون سنتيم من المصاريف بما يشمل جلسات التصفية والتحاليل الطبية والأدوية
المراكز الخاصة.. الغابة التي تخيف أطباء ومستثمرين
بعد سنوات من ترسخ هذه الممارسات في الاستقطاب والاستحواذ على المرضى في سوق تصفية الكلي بالمراكز الخاصة بالمغرب، أصبحت قواعد السوق ثابتة وشبه موحدة، بشكل يخيف من لا يقبل بهذه القواعد.
وفي السياق ذاته، تحدثت إلينا طبيبة متخصصة في أمراض الكلي في القطاع العام، وقالت إنه بعد أزيد من عشر سنوات من الممارسة في مستشفى عمومي، لا زالت عاجزة عن فتح مركز خاص للتصفية، خوفا من قواعد السوق التي رسخت حسب قولها “قواعد منافسة غير شريفة”، ولا تسمح بغيرها.
نفس الكلام قاله مصطفى فوزي في حديثه إلينا، وأشار إلى أن الجمعية التي يديرها وتمتد على أزيد من 30 فرع في كل مناطق المغرب، تضم عددا واسعا من الأطباء، والذين عجزوا عن فتح مراكز خاصة، لأنه يعرفون “إذا فتحوا مراكزهم بغير قواعد السوق، لن يتجاوز عدد مرضاهم الخمسة”.
وإلى جانب الأطباء والمراكز، تشير مصادرنا إلى أنه حتى الشركات العاملة في قطاع تصفية الكلي، تتخوف من ولوج السوق بسبب القواعد القائمة، والتي لا توفر حسب قولها قواعد منافسة شريفة.
سوق اختلالات خصب حول العالم
القطاع الخاص المتخصص في تصفية الكلي، يشكل حول العالم بيئة خصبة للاختلالات، والمغرب ليس استثناء فيه، حيث أن الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تعتبر أكبر الدول من حيث عدد مراكز تصفية الكلى بـ7000 مركز، سجلت قبل أزيد من عشر سنوات واحدة من أكبر قضايا الفساد في هذا المجال.
في سنة 2011 اتهمت شركة أمريكية بتقديم رشوة للأطباء لإحالة مرضاهم على عياداتها الخاصة بغسيل الكلى، مقابل مبالغ مالية كبيرة، في ممارسة كانت تهدف إلى احتكار خدمات غسيل الكلى في مناطق معينة، مما أدى إلى تقييد خيارات المرضى وجعلهم عرضة لتلقي خدمات بأسعار مرتفعة وبجودة غير مضمونة.
وكجزء من استراتيجيتها لزيادة الأرباح، تم اتهام الشركة بتقديم علاجات غير ضرورية أو مبالغ فيها للمرضى، منها تقديم أدوية أو إجراءات طبية غير مطلوبة من الناحية الطبية، ولكنها مربحة للشركة، في ممارسات لم تؤدي فقط إلى زيادة التكاليف بشكل غير مبرر، بل أيضًا عرضت صحة المرضى للخطر، حيث تلقوا علاجات لم يكونوا بحاجة إليها.
الفضيحة أثارت تساؤلات كبيرة حول كيفية تنظيم ومراقبة صناعة الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، وخاصة في قطاع غسيل الكلى الذي يخدم مئات الآلاف من المرضى، وأطلقت دعوات إلى إصلاحات شاملة لضمان شفافية أكبر ومساءلة لمقدمي الخدمات الصحية، وكذلك لحماية المرضى من الاستغلال التجاري.
هذه الفضيحة وضعت الأصبع على الثغرات الكبيرة في النظام الصحي، حيث يمكن أن يؤدي التركيز المفرط على الربح إلى ممارسات غير أخلاقية وضارة بالمرضى، كما أظهرت الفضيحة الحاجة الماسة إلى تعزيز الرقابة والشفافية في القطاع الصحي لضمان أن تظل الأولوية الأولى هي صحة وراحة المرضى.
إلى جانب المسار القضائي لهذه القضية، فإن الولايات المتحدة الأمريكية اتخذتها نقطة انطلاق في مسار إصلاح تشريعي، بالاستجابة لدعوات إصلاح قوانين الرعاية الصحية لضمان الشفافية ومنع الفساد الذي يؤثر على صناديق التغطية الصحية والتأمين، وتم إدخال عدة إصلاحات تهدف إلى تعزيز الشفافية والنزاهة في الرعاية الصحية، منها تشديد القوانين المتعلقة بالرشوة والاحتيال في الرعاية الصحية، مع فرض عقوبات أشد على الممارسات غير القانونية، وتحسين الشفافية بفرض بنود جديدة تحتم الإفصاح عن العلاقات المالية بين الأطباء والشركات المصنعة للأدوية والمعدات الطبية، وفرض مراقبة دقيقة وتقييم ضمان الالتزام بالمعايير الأخلاقية من قبل مقدمي الرعاية الصحية.
ما الذي يوصى به للمغرب
أمام كل ما يرصد من اختلالات في مراكز التصفية، اتخذت دول رائدة في هذه الخدمات مثل الولايات المتحدة الأمريكية معايير صارمة للمراقبة، حيث تقوم منظمة “مراكز الرعاية الطبية والخدمات الطبية” (CMS) بوضع معايير صارمة للتصديق على مراكز غسيل الكلى، بما في ذلك فحص دوري لضمان جودة الرعاية. كما تشمل هذه التنظيمات تدقيقا ماليا للتأكد من عدم تعرض المرضى للفوترة المفرطة أو سوء الرعاية.
ومن بين أبرز التجارب الدولية التي اعتمدت في هذا المجال، تلك التي سنتها بريطانيا، بجعل المريض نفسه بوابة للإصلاح، حيث يتم تزويد مرضى غسيل الكلى بمعلومات كاملة حول حقوقهم وتكاليف العلاجات والخيارات المتاحة، مما يقلل من فرص الاستغلال المالي، كما تم إطلاق منصات إلكترونية تتيح للمرضى مقارنة مراكز غسيل الكلى، وهو ما يمكن استنساخه في المغرب.
ومن بين الإجراءات التي تعتمدها أستراليا ونيوزيلندا مدخلا للإصلاح، اعتماد علاج غسيل الكلى المنزلي أو القريب للمرضى المستقرين، مما يقلل من اعتمادهم على المراكز الخاصة، ويخفف من التكاليف ويحسن من جودة حياة المرضى.
وتبقى العقوبات والإجراءات القانونية، من أقوى بوابات الإصلاح، وهناك دول مثل البرازيل، وضعت إطارا قانونيا صارما يسمح بفرض عقوبات شديدة على المراكز التي تمارس الاستغلال، وتشمل العقوبات الغرامات وإغلاق المؤسسات والملاحقات القضائية.
أما في المغرب، وخاصة فيما يتعلق بمكافحة استغلال المافيات في مراكز غسيل الكلى الخاصة، عدة ممارسات عالمية يمكن أن تستند إليها في بناء مقاربة فعالة، إلى جانب آخرى، يوصي بها الفاعلون المحليون، لملاءمة التوصيات العالمية، مع خصوصية حالة الفساد المغربية.
ومن أول ما يوصى به في الحالة المغربية، من طرف الخبراء الذين استطلعنا آراءهم، أولوية وضع قوانين لكسر سلسل الفساد، بتعزيز آليات المراقبة، ووضع كوطا للمراكز تحدد سقف مرضاها ، بما يجعل لكل مكون من المكونات مكانه، سواء المراكز الخاصة أو المستشفيات العمومية أو الجمعيات.
كما بات الواقع الذي رسخته هذه الممارسات، يفرض على المغرب اتخاذ إجراءات عاجلة وصارمة لتنظيم القطاع، تبدأ بضمان إخراج المريض من معادلة الفساد، بربط استفادة المريض من خدمات مركز تصفية في دائرة سكنه، وضبط خارطة توزيع المراكز من خلال ضبط عمليات الترخيص لها، لضمان توزيعها على أحياء ومدن تقل فيها هذه الخدمة.
الواقع المأزوم للقطاع، يستدعي كذلك تدخلا صارما لمراقبة جودة المعدات المستعملة، والتي تطالها يد الفساد ويدفع فاتورتها المريض من صحته وعمره، وذلك من خلال إجراءات منها وضع دفاتر تحملات حول جودة المياه المستعملة في عملية التصفية، إضافة إلى فرض عدم تجاوز عدد ساعات معينة من التصفية، لا تتعدى الـ30 ألف ساعة، أو سبع سنوات من استعمال آلية الغسيل، وذلك من خلال فرض عقد الصيانة من طرف الشركة المصنعة أو العميل المعتمد أو مديرية الأدوية والصيدلة، ابتداء من السنة الثانية بعد التشغيل.
مسؤولية وزارة الصحة ومديرية الأدوية تظهر جلية في عملية تجاوز هذا الواقع الذي يتخبط فيه القطاع، وذلك من خلال ضرورة سعيها لتعزيز رقابتها، بتخصيص لجان محلية ووطنية بصلاحيات تسمح لها بالوقوف على الاختلالات، إلى جانب ضرورة تدخلها بشكل صارم في مسار منح شهادات التسجيل للمنتجات ذات الجودة الرديئة، والوقوف في وجه الشركات المحلية التي تخزن وتبيع بضائعها في ظروف غير لائقة وأحيانا غامضة مرفوقة في بعض الأحيان بتلاعب في الفواتير.