story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الدستور.. ما يْخالف! ما يْخالف!

ص ص

أصدرت المحكمة الدستورية أخيرا قرارها بشأن القوانين الجديدة التي أقرّها البرلمان بخصوص الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، والتي تنطوي على مقتضيات أثارت الكثير من المخاوف والشكوك بخصوص دستوريتها. غير أن القاضي الدستوري اختار تزكية جميع هذه المقتضيات بما فيها تلك التي يكاد يجمع الأساتذة والمتخصصون على ملامستها حدود “الممكن الدستوري”، خاصة منها تلك التي تجرّد الأشخاص من حقوقهم السياسية وأهليتهم الانتخابية لمجرّد الشك، أي في مرحلة الاتهام والإدانة القضائية غير النهائية.

خطوة تسمح بالتعبير عن “ملاحظة” أو “انطباع” في الأدنى، مفاده أننا أمام قضاء دستوري “منساق” إلى حدّ كبير مع الميولات والرغبات التي تعبّر عنها “الدولة”. يتجسّد ذلك من خلال سابقة القانون التنظيمي للإضراب، حين خيّبت المحكمة أمل الكثيرين في مراجعة بعض المقتضيات، وكذلك اليوم مع قوانين انتخابية حملت الكثير من “رغبات” سلطة الداخلية في تشديد القبضة على لحظة مصيرية ديمقراطيا.

وتزيد أهمية استقراء ما ينتجه القضاء الدستوري في ظل ترقّب صدور القانون التنظيمي الخاص بالدفع بعدم دستورية القوانين، وتعليق الهيئات المهنية للصحافة آخر آمالها في إسقاط مشروع قانون المجلس الوطني للصحافة، على إحالته المأمولة على المحكمة الدستورية.

دعونا نعترف أولا أن التعليق على قرارات القضاء الدستوري يُعدّ من أصعب ما يكون، لأن هذا القضاء لا يبتّ في “وقائع” قابلة للإثبات مثل القضاء العادي (باستثناء الطعون الانتخابية)، بل يحسم في تأويل النص الدستوري وفي الموازنة بين مبادئ وقيم قد تبدو متعارضة.

ثم إن قرارات القاضي الدستوري تخرج، بحكم وظيفته، من منطقة “تطبيق القاعدة” إلى منطقة ترسيم حدود القاعدة نفسها وإقرار ما هو دستوري وما ليس كذلك، وهو ما يجعل جزءا مهما من تعليله قائما على تقدير التناسب والضرورة وهامش المشرّع، وهي عناصر ليست رياضية ولا يمكن دحضها بسهولة بمنطق يقيني.

ويزداد هذا التعقيد لأن قرارات القضاء الدستوري نهائية وملزمة ولا تقبل الاستئناف أو النقض، فتتحول إلى “كلمة فاصلة” تُغلق النزاع بدل أن تتركه مفتوحا على درجات التقاضي، فيصبح نقدها أقرب إلى نقد فلسفة التأويل ذاتها لا مجرد تصحيح خطأ تقني أو إجرائي.

وحتى لا أقع في محظور المجازفة بالاشتباك مع “فلسفة” المحكمة الدستورية واختياراتها في البت في النصوص القانونية المتعلقة بالانتخابات، سوف أكتفي بعرض مقتطفات من قراراتها الأخيرة، والتي تعكس خيار “الانسياق” وعدم معاكسة خيارات المشرّع البرلماني مهما بدت مثيرة للقلق أو الجدل:

في القانون المتعلق بالأحزاب السياسية، تم اعتبار المؤتمر التأسيسي للحزب قانونيا، إذا حضره خمسة وسبعون في المائة (75%) على الأقل من عدد الأعضاء المؤسسين، المطلوب قانونا، مع اشتراط توزيعهم بحسب مقرات إقامتهم الفعلية، على جميع جهات المملكة، على ألا يقل عددهم في كل جهة عن خمسة في المائة (5%) من عدد هؤلاء الأعضاء، مع مراعاة النسبة المحددة لكل من الشباب والنساء في الخمس (1/5) من عدد الأعضاء المؤسسين…

مقتضيات اعتبرها البعض تشديدا مبالغا فيه لمسطرة تأسيس الأحزاب السياسية، بينما اعتبرت المحكمة الدستورية أنه ليس فيه ما يخالف الدستور.

ثم هناك التعديلات المرتبطة بصرف مبلغ يعادل ست مرات المبلغ الراجع لكل مقعد، لكل فائز على صعيد دائرة محلية بتزكية من الحزب، مترشحة كانت أو مترشح لا يزيد عمره على 35 سنة، أو مترشحة أو مترشح مقيم خارج تراب المملكة، أو مترشحة أو مترشح في وضعية إعاقة، أو مترشحة أخرى غير منتسبة لإحدى الفئات المذكورة، مع إمكانية استفادة الأحزاب السياسية من مساهمة الدولة، في تغطية مصاريف تنظيم مؤتمراتها الاستثنائية، المنعقدة بدعوة من الأجهزة المؤهلة، طبقا لأنظمتها الأساسية، إذا أسفر هذا المؤتمر عن انتخاب مسؤول وطني جديد للحزب…

مقتضيات تنطوي على توظيف كثيف لسلاح المال في إنتاج مشهد انتخابي يوحي بالمساواة والتشبيب والتداول على المسؤولية، وهو ما قالت المحكمة الدستورية: ليس فيه ما يخالف الدستور.

وفي القانون التنظيمي المتعلق بمجلس النواب، توجد الكثير من المقتضيات المقلقة بخصوص مدى احترام قرينة البراءة في تجريد المواطنين من حقوقهم السياسية وأهليتهم للترشح.

فهو يمنع مثلا الأشخاص المحكوم عليهم بمقتضى حكم نهائي بعقوبة حبس نافذة أو عقوبة حبس مع إيقاف التنفيذ من الترشح، إلى جانب الأشخاص المتابعين على إثر ضبطهم في حالة تلبس بارتكاب جناية أو إحدى الجنح المنصوص عليها في القانون المتعلق باللوائح الانتخابية العامة وعمليات الاستفتاء واستعمال وسائل الاتصال السمعي البصري العمومية خلال الحملات الانتخابية والاستفتائية… والأشخاص الذين صدرت في حقهم أحكام استئنافية بالإدانة يترتب عليها فقدان الأهلية الانتخابية؛ بل وحتى الأشخاص الذين صدرت في حقهم أحكام ابتدائية بالإدانة من أجل جناية.

هنا استحضرت المحكمة تنصيص الدستور على أن الأمة تختار ممثليها في المؤسسات المنتخبة بالاقتراع “النزيه”، وقوله في الفصل 11 منه، إن “الانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة هي أساس مشروعية التمثيل الديمقراطي.

… كل شخص خالف المقتضيات والقواعد المتعلقة بنزاهة وصدق وشفافية العمليات الانتخابية، يعاقب على ذلك بمقتضى القانون…”، وإن “قرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة مضمونان”…

لتخلص المحكمة إلى أن المشرّع مستقل في تقدير شروط عدم التأهيل للترشح لعضوية مجلس النواب، وأنها لا تملك سوى حق مراقبة ذلك “صيانة لمشروعية التمثيل الديمقراطي، واعتبارا للصلاحيات المسندة دستوريا لمجلس النواب، بصفة خاصة”.

أما بخصوص قرينة البراءة، فقالت المحكمة إنها مكفولة لكل مشتبه فيه أو متهم بارتكاب جريمة، أمام القضاء الزجري، “أما شروط القابلية للانتخاب، أي أهلية الترشح، فتندرج في نطاق التنظيم التشريعي للحقوق السياسية، مما يكون معه المشرع، مخولا، متى تقيد بالأحكام الدستورية المشار إليها أعلاه، لتحديد موانع الترشح للعضوية في مجلس النواب، في مواجهة من صدرت في حقهم أحكام قضائية، في جرائم يعود إليه أمر تحديدها، دون اشتراط إدانة هؤلاء بمقرر قضائي مكتسب لقوة الشيء المقضي به، أو من توبع إثر ضبطه في حالة التلبس، إذ يعد ذلك من بواعث عدم الاطمئنان إلى صدق ونزاهة العملية الانتخابية، في كافة مراحلها”

وخلصت المحكمة بالتالي إلى أن هذا المقتضى القانوني الجديد، ليس فيه ما يخالف الدستور.

وانطلاقا من هذه “السوابق” والتراكمات التي أصبحنا نتوفّر عليها من اختيارات و”فلسفة” المحكمة والدستورية في التشريعات المرتبطة بالحقوق المدنية والسياسية، خلافا لقرارها الخاص بمشروع قانون المسطرة المدنية الذي قضت بعدم دستورية بعض من بنوده؛ يمكننا أن نعبّر عن خشيتنا من الآن، في حال حدوث “معجزة” مع مشروع قانون المجلس الوطني للصحافة وإحالته على المحكمة الدستورية، أن هذه الأخيرة ستتحفنا بعبارة: “ليس فيه ما يخالف الدستور”.