story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الخوف على القضاة

ص ص

نشرنا نهاية الأسبوع الماضي، تقريرا إخباريا حول نتائج دراسة جديدة حول تطورات حرية التعبير في المغرب، من أهم خلاصاتها افتقاد جزء كبير من المغاربة للثقة في قدرة القضاء على حماية حقهم في ممارسة حرية التعبير.
تعليقات القراء وجمهور الشبكات الاجتماعية، والتي يمكن اعتبارها مؤشرا آخر يكشف جانبا من تمثلات المغاربة، كان مفاجئا للغاية، لكون الاتجاه العام للتعليقات ذهب إلى استغراب مضمون عنوان تقريرنا، والذي قال إن نصف المغاربة لا يثقون في قدرة القضاء على حماية حريتهم في التعبير.
أغلب التعليقات ذهبت، إما بشكل جدي أو، ساخر، إلى استغراب حديثنا عن النصف فقط متسائلة هل النصف الآخر “زعما” يثق في قدرة القضاء على حماية حرية أساسية من قبيل حرية التعبير؟
الحقيقة أنه وإلى جانب هذا التمثل الذي كشفت عنه “عيّنة” المتفاعلين مع تقريرنا الإخباري، والذي يميل إلى نفي أية ثقة في قدرة المؤسسة القضائية على حماية حرية التعبير في المغرب، لم يكن عنوان تقريرنا دقيقا كفاية ليعكس حقيقة ما خلصت إليه نتائج الدراسة التي أنجزها المعهد المغربي لتحليل السياسات بشراكة مع منظمة “أنترنيوز” والمنتدى المغربي للصحافيين الشباب.
فخمسين في المئة من المستجوبين قالت بالفعل إنها غير واثقة من قدرة القضاء على حماية حرية التعبير، لكن هناك نسبة 13 في المئة إضافية، فضّلت خيار “غير واثق بتاتا”.
أي أننا في واقع الأمر أمام 63 في المئة من المستجوبين الذين لا يثقون في قدرة القضاء على حماية حرية الرأي والتعبير، مع العلم أن 11 في المئة من المستجوبين اختاروا جواب “لا أعرف”، أي أنهم لم يصرحوا بعدم ثقتهم في قدرة القضاء علي حماية حرية التعبير، هذا صحيح، لكنهم امتنعوا أيضا عن التصريح بثقتهم فيه، وهذا مؤشر دالّ أيضا.
وحدهم 26 في المئة من المستجوبين قالوا إنهم يثقون في قدرة القضاء على حماية حرية التعبير، من بينهم 5 في المئة فقط قالوا إنهم واثقون جدا.
علينا أن نكون حذرين جدا في قراءة هذا المعطى. يتعلّق الأمر حرفيا وحسب ما نٌشر من نتائج، بسؤال يتعلّق بالثقة في “قدرة” القضاء على حماية حرية الرأي والتعبير، وليس بالثقة في القضاء نفسه. ويمكننا أن نقرأ في آخر نسخة من تقرير مؤشر الثقة في المؤسسات، الذي يصدره المعهد نفسه، أن 72 في المئة من المغاربة يثقون في القضاء، 37 في المئة يثقون تماما بينما 35 في المئة يثقون فيه إلى حد ما.
هناك فرق ينبغي التقاطه بين الثقة في القضاء والوثوق في قدرته على حماية الحقوق والحريات. أن يثق بك المرء معناه أنه يستحضر حسن نيتك، وغياب أي وازع لديك يمكن أن يحملك على إيذائه. لمن أن يثق في قدرك على حمايته أمر آخر مختلف كليا.
إنه يعني حصول القناعة بوجود سلطة قضائية حقيقية ومستقلة، وفصل فعلي بين السلطات، وسيادة حقيقية للقانون على الجميع. هذا ما يعنيه الوثوق في قدرة القضاء على حماية حرية التعبير.
ومن البديهي ألا تكون للمغاربة هذه القناعة، بما أنهم تابعوا العديد من الملفات التي توبع فيها صحافيون ومدوّنون ونشطاء وحقوقيون وصنّاع محتوى، وعلم القريب والبعيد، الصديق والخصم، بأنهم ظُلموا، إما في طريقة “صناعة” ملف الاتهام، أو في مسطرة التحقيق، أو في التمتع بالمحاكمة العادلة، لكنهم لم يحصلوا على الحماية الكافية لحقهم في التعبير.
نحن هنا في خط تماس مباشر مع وتر شديد الحساسية من مقومات العيش المشترك، الآمن والمطمئن. وهذا المؤشر يعني أننا أصبحنا نتموقع في دائرة العيش تحت الإكراه والخوف والصمت. وإلا كيف لمواطن أن يقدم على ممارسة حقه في التعبير، ويتجرأ على توجيه الانتقاد إلى أصحاب السلطة والمال والنفوذ، في وقت تغيب لديه القناعة بأن هؤلاء لا يستطيعون إلحاق الأذى به، لأن هناك قضاء سيمنع ذلك ويوقف محاولتهم الانتقام منه أو إسكاته؟
هل تعرفون ما الأخطر من أن يخاف الناس من القضاة؟ إنه الخوف عليهم.
أن تخاف من القاضي معناه أنك تخشى إرشاءه أو تأليبه أو استمالته من طرف خصومك، كي يستعمل سلطته ضدك ويظلمك. وهذا في الحقيقة شعور “طبيعي” ووارد حتى في أحسن وأكبر الديمقراطيات في العالم. ولا شك أنه يحصل فعلا، ولا شك أيضا أن الناس هناك يتوقعونه ويلجؤون إلى مساطر التشكي والتظلم منه…
الأخطر هو أن تخاف على القاضي نفسه. أي أن تشك في قدرته على تحكيم ضميره، والالتزام بالقانون، والاستجابة للملتمسات والمذكرات.
الأخطر أن يصبح مضطرا لترديد مقولة: “تبكي عليه مّو أحسن ما تبكي عليّ مّي”.
بينما كنت أهم باستكمال كتابة هذا المقال صباح هذا الاثنين 24 يونيو 2024، وفي إحدى استراحات تخفيف الضغط والتنفيس على الذهن، فتحت علبة الرسائل الواردة على حسابي في إحدى منصات التواصل الاجتماعي، لأجد أحد القراء المتابعين يسرد عليّ قصته الطويلة مع الحلم باحتراف مهنة الصحافة، وكيف أن “الألطاف الإلهية” حالت دون تحقيقه لهذا الحلم-الكابوس، ليختم رسالته بالقول:
“…وأنا أقرأ لك عمودك اليومي، يزداد خوفي عليك أكثر في زمن الفرص الضائعة كما الرجال الضائعة.. الله يخليك حافظ على نفسك بيننا، نحاول معا أن نُبقي شعلة أمل منيرة لتشييد مغرب لكل المغاربة”.
لو كان هذا المواطن مقتنعا بوجود عدالة قادرة على إنصافي في حال تعرضت للظلم والاستهداف بسبب ما أعبّر عنه، لما كلّف نفسه عناء توجيه نصيحة لا أحسبها إلا صادقة وعفوية ب”الحفاظ على نفسي بين الناس”.
فهمتم الآن لماذا لا يثق المغاربة في قدرة القضاء على حماية حقنا في التعبير؟