الحاجة إلى تدخل ملكي
لا تخرج المدرسة العمومية من أزمة إلا لتدخل في أخرى. وما كان يبدو نهاية للاحتقان القائم منذ أكثر من ثلاثة أشهر، استحال إلى بداية جديدة للتوتر والتصعيد.
قرارات الحكومة بتوقيف العديد من الأساتذة المضربين عن العمل كان بمثابة إطلاق النار على القدمين.
عبث وتخبط واستهتار بالقوانين والحقوق الأساسية، هذا بالضبط ما أثبتت الحكومة قدرتها على إنجازه حتى الآن.
نعم قدّمت الكثير للمضربين وأبانت عن قدر من الحكمة والتعقل وهي تحترم حق التظاهر، لكن الحكومة كانت تعود في كل مرة لتبطل المفعول الإيجابي لخطواتها.التصرفات التي تقدم عليها الحكومة تنبئ بالحالة التي يوجد عليها عقلها الباطن، وهي حالة المضطر لا المقتنع.
في الأول كان تعاطيها مع موضوع الاقتطاعات من الأجور، تطبيق بيد ووعد ب”المعالجة” بأخرى، كأن الأمر لا يتعلق بحق أساسي لا مجال للتلاعب أو التردد فيه.
واليوم الحق في الاضراب نفسه يصبح معلقا على أمزجة مسؤولين إداريين، يحولونه بجرة قلم إلى غياب غير مبرر وسند للتوقيف عن العمل.
الحكومة من حيث لا تدري تضع نفسها في موقف إدانة بل وخيانة للدستور والقوانين.
إذا كانت تعتبر المضربين مجرد متغيبين عن العمل لأسباب غير مشروعة، فعليها أن تخبرنا كيف تجلس إلى طاولة التفاوض وتوقع المحاضر وتقدم التنازلات والزيادات في الأجور والتعويضات بالملايير… لفائدة متغيبين عن العمل
أصبحت شخصيا أقل لوما للأساتذة المضربين، وأقل يقينا مما كنت أعتقده إلى وقت قريب من سقوطهم في “الغنان” والإفراط في المطالب والإصرار على الاحتجاج.
ما فعلته الحكومة عبر قرارات التوقيف يعطي للمحتجين الذين يواصلون الإضرابات كامل المشروعية في عدم الثقة في الحكومة ووعودها. كيف يثق المرء في من يفاوضه بيد ويصدر قرار توقيفه بأخرى؟مرة أخرى ولمن يريد أن ينصت: المعركة تجري فوق الأجساد الصغيرة لضحايا أبرياء هم التلاميذ.
نحن عمليا أمام سنة دراسية أسوأ من سنة الجائحة. وقتها كان الأطفال على الأقل يتواصلون مع أساتذتهم ويجلسون في البيوت تحت رقابة أسرهم. أما اليوم فنحن أمام سنة سوداء بالكامل، لا دراسة فيها عن قرب أو عن بعد، مع الأساتذة أو داخل الأسر.
الحالة باتت تتطلب رفع الملف إلى أعلى سلطة في البلاد والجهة الوحيدة القادرة على إصدار قرارات تحظى بالثقة مع ترتيب المسؤوليات اللازمة.
وعلى الحكومة ورئيسها أن يرفعوا اليد عن هذا الملف الذي يلا يحتمل هواية ولا ترددا ولا تخبطا، ويحيلوه على النظر الملكي لوقف النزيف وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.نحن أمام حالة أقرب ما تكون إلى الكارثة الوطنية، التي تستدعي اللجوء إلى الملك كما يقدمه الفصل 42 من الدستور: رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة.كل ما يتضمنه هذا الفصل بات مهددا اليوم، بدءا من وحدة الأمة (انقسام المغاربة بين أغلبية محرومة من التعليم وأقلية تتمتع به لأسباب مادية صرفة) ووصولا إلى احترام الدستور وحسن سير المؤسسات وصيانة الحقوق والحريات الأساسية للمغاربة.
بنص الدستور دائما، يختص المجلس الوزاري الذي يرأسه الملك بالتداول في التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة. هل هناك في توجهات سياسة الدولة ما هو أكثر استراتيجية من تعليم أبناء المغاربة؟
أليس الأمر متعلقا بورش مفتوح منذ عقود لإصلاح التعليم العمومي؟
ألم تكن كل محاولات الإصلاح الحديثة بدءا من الميثاق ووصولا إلى الرؤية والقانون الإطار عبارة عن مبادرات أو قرارات ملكية؟
فصول أخري من الدستور تجعل التدخل الملكي في الحالة الراهنة ممكنا، بل مرجوا ومحمودا، مثل الفصل 47 الذي يقول إن للملك، بمبادرة منه، وبعد استشارة رئيس الحكومة، أن يعفي عضوا أو أكثر من أعضاء الحكومة من مهامهم.
كما أن لرئيس الحكومة أن يطلب من الملك إعفاء عضو أو أكثر، من أعضاء الحكومة، إما بمبادرة منه أو بناء على استقالتهم، الفردية أو الجماعية…على أحد هؤلاء المسؤولين أن يتحلى بالشجاعة والوطنية لتفعيل هذه المقتضيات وفتح الباب أمام نهاية الأزمة.
لماذا لا يبادر المسؤولون عندنا للاستقالة أو طلب الإعفاء؟لقد فشلت المحاولة الجديدة لإصلاح التعليم يا سادة، وعلى من يدبرون الملف حاليا أن يخرجوا من المشهد ويعيدوا الأمر إلى صاحب الاختصاص الأصلي، قبل أن يفوت الأوان وتصبح الأزمة أكبر وأخطر.المدرسة لست لعبة!