الجيش وبنكيران

علينا أولا وقبل الخوض في أي جدل او نقاش، أن نشكر حزب العدالة والتنمية لكونه بات المصدر الوحيد لفتح نقاشات من مستوى الاختصاصات الدستورية والمجال المحفوظ للمؤسسة الملكية والعمل الدبلوماسي والآن الشأن العسكري.
فمنذ الوثيقة التي قال الكاتب الاول السابق لحزب الاتحاد الاشتراكي، الراحل عبد الواحد الراضي، انها وجهها إلى القصر الملكي بشأن الإصلاح الدستوري، لم تعد الأحزاب السياسية تعتبر نفسها معنية بمثل هذا النقاش، ووحدها حركة 20 فبراير أهدتنا نافذة سرعان ما أغلقتها أيادي الداخل والخارج المتوجسة من ريح الديمقراطية.
لننتقل الآن إلى تصريحات الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، رئيس الحكومة السابق عبد الإله ابن كيران، التي تحوّلت إلى عاصفة تثير غبار التخوين والتجريد من الوطنية…
الرجل قال ضمن كلمة له أمام لقاء حزبي، إن مشاركة إسرائيليين في مناورات عسكرية احتضنها المغرب، أمر “لا يجوز” لأن الأمر يتعلّق حسب تعبيره بقوم يحاربون أمة الإسلام.
وأوضح ابن كيران أن هذا الأمر لا يجوز “شرعا ولا ديمقراطيا”، ثم خاطب الدولة داعيا إياها إلى وقف كل تعاون مع هذه الدولة “المارقة”.
وبعدما أعدت الاستماع إلى تسجيل هذا المقطع، لم أجد أن الرجل أشار من قريب أو بعيد للقوات المسلحة الملكية أو انتقدها أو خاطب عناصرها.
أي أننا أمام مواطن يمارس حقه الدستوري في التعبير وممارسة السياسة، يخاطب دولته باحترام، منتقدا جانبا من جوانب سلوكها، ويدعوها إلي تغييره.
فمنذ متى صار انتقاد قرار سياسي أو المشاركة في مناورة عسكرية شأنا من شؤون المسّ بالمقدسات أو التحريض على المؤسسات؟
سؤال بسيط، لا يطرحه من يرغب في الجدل، بل من يخشى على ما تبقّى من فضاء عام، ومن قدرة هذا البلد على تحمّل تنوّع الآراء، بما فيها تلك التي لا تروق للمزاج الرسمي أو الإعلامي المعبّأ بخطاب التشهير.
ما قاله عبد الإله ابن كيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، في اجتماع حزبه يوم 31 ماي، لا يخرج عن حدود التعبير السياسي المعارض، ولا يحمل في طيّاته ما يمكن تأويله باعتباره مسّا بالمؤسسة العسكرية أو تحريضاً عليها.
الرجل عبّر عن موقفه الرافض لمشاركة جنود من جيش الاحتلال الإسرائيلي في مناورات “الأسد الإفريقي”، وهو موقف يتقاسمه العديد من المغاربة، ويتقاطع مع انتقادات دولية وإسرائيلية ذاتها لما يرتكبه هذا الجيش من مجازر وجرائم حرب موثقة.
لكن الحملة التي انطلقت فور نشر الكلمة، والتهم التي صيغت بكثير من المكر، تنبئ بأن المشكلة ليست في مضمون ما قيل، بل في من قاله، وفي رمزية الموقع الذي يصدر عنه.
فابن كيران لم يعد فقط زعيما سياسيا لحزب معارض، بل أصبح هدفا دائما لكل من يريد شد الانتباه عبر تخوين الآخرين.
والمفارقة أن بعض الذين يدينون ابن كيران اليوم، لا يفعلون ذلك انطلاقا من حرص على احترام مؤسسات الدولة، بل بدافع تصفية حسابات معروفة، وبلغة تُسيء أكثر مما تدافع، لأنها توظف الجيش والمؤسسات الحساسة mأدوات في مواجهة خصوم سياسيين.
الأخطر من ذلك، أن هذه الهجمات تعكس تصوراً قروسطيا للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبين الدولة والمجتمع، حيث كل رأي مخالف يُعتبر شغبا، وكل ملاحظة تُؤوَّل كخيانة، وكل معارضة تُختزل في نوايا مبيّتة.
في الدول التي نحلم أن نُشبهها، تُناقش السياسات الأمنية والعسكرية والدبلوماسية في الصحافة والبرلمان والأكاديميات. وفي إسرائيل نفسها، التي يزايد البعض علينا بها، تُنتقد المؤسسة العسكرية يوميا، ويُستجوب قادتها، وتُفتح التحقيقات بشأن تصرفاتهم في الحرب والسلم.
أما نحن، ففي كل مرة تُثار فيها قضية على قدر من الحساسية، تُسحب من رفّ السياسة وتُلقى في ساحة القضاء الأخلاقي والإعلامي، وكأن النقاش جريمة.
ثم تعالوا نناقش قليلا مسألة إثارة الأمور المتعلقة بالأمن والدفاع. الثابت نصا وممارسة في التجارب الديمقراطية، أن خضوع حاملي السلاح، بكل أصنافهم، لسلطة مدنية منتخبة هو أحد مؤشرات قياس الديمقراطية.
وما أعرفه، وأتحدث هنا تحت رقابة واحد من أكثر الحقوقيين المغاربة احتراما، والذي بات قبل فترة مسؤولا عموميا بصفة مندوب وزاري مكلف بحقوق الإنسان، السيد الحبيب بلكوش، والذي تعلّمت بفضل اشتغاله الطويل عبر مركز دراسات حقوق الإنسان والديمقراطية الذي كان يرأسه، على هذا الموضوع؛ أن المعايير الديمقراطية المعتمدة في مجال الرقابة الديمقراطية على المؤسسات الأمنية والعسكرية تُستمد من المبادئ الأساسية للحكم الديمقراطي، وتدور حول الخضوع للسلطة المدنية، والشفافية، والمحاسبة، واحترام سيادة القانون، وحقوق الإنسان.
ومن ضمن هذه المعايير، حسب مرجعيات الأمم المتحدة، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ومجلس أوربا… أن تخضع المؤسسات الأمنية والعسكرية للسلطة المدنية المنتخبة، وتكون موضوعا للرقابة البرلمانية، وتخضع بدورها لقواعد الشفافية والحق في الحصول على المعلومات، وتخضع لنقاش الإعلامي وفي أوساط المجتمعين السياسي والمدني. بل إن من أهم هذه المعايير عدم عسكرة الحياة العامة، كما يحاول البعض أن يفعل اليوم.
وإذا كان لابد من فتح هذا النقاش اليوم في المغرب، كما فعل خصوم ابن كيران، فإن واقعنا يفيد أن الرقابة المدنية على حاملي السلاح ضعيفة للغاية، والبرلمان بالكاد يقترب من الموضوع مرة في السنة عندما تعرض عليه الميزانية العامة للدولة، وكل المعلومات والمعطيات العسكرية تعتبر ضمنيا وعمليا من بين استثناءات قانون الحق في الحصول على المعلومات… بل إن أول قانون على الإطلاق صدر عندما تولى عبد الإله ابن كيران رئاسة الحكومة في 2012، كان هو القانون المعروف إعلاميا باسم “قانون حصانة العسكريين”.
رأيتم ما يوجد خلف الباب الذي فتحه ضحايا منطق “شاف الربيع ما شاف الحافة؟
إن حرية التعبير ليست امتيازا تمنحه الدولة لمن تشاء، بل هي حق دستوري وإنساني. وهي خط الدفاع الأخير عن كرامة المجتمع وعقلانيته. أما تحويل الرأي إلى جريمة، والرأي المخالف إلى مؤامرة، فلا يفضي إلا إلى تعميم الخوف، وإلى مجتمع يخرس فيه الجميع، ثم ينهار تحت وطأة الصمت.
لقد أخطأ من ظن أن انتقاد مشاركة جنود إسرائيليين في مناورة عسكرية على أرض المغرب هو اعتداء على الجيش المغربي. فجيشنا ليس جيشا من ورق، ولا يحتاج إلى حماة افتراضيين يزايدون باسمه. هو جيش دولة عريقة، له من الهيبة والتاريخ ما يجعله فوق كل استغلال سياسوي.
وإذا كانت الدولة، بمؤسساتها السيادية، لا تتحمل نقاشا داخليا من هذا النوع، فمتى ستتحمل المواقف الخارجية حين تجد نفسها في قفص الاتهام بسبب تلك المشاركة؟
الذين يريدون إسكات أي صوت معارض، لا يدافعون عن المؤسسات، بل يقوّضونها من حيث لا يعلمون. لأن أقوى مؤسسة في أي دولة، هي تلك التي تصمد أمام النقد، وتتسع لمنطق الاختلاف.
فالخلاف لا يعني الخيانة، والرأي ليس جريمة.