story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

الجهوية المتقدمة: من طموح التأسيس إلى رهان تنزيل مبادرة الحكم الذاتي بالصحراء

ص ص

مع الشروع في الإعداد لـ “الجيل الجديد من برامج التنمية الترابية المندمجة” إثر دورية وزير الداخلية (15 غشت 2025)، وما واكبها من دليل منهجي (أكتوبر 2025)، يعود إلى واجهة النقاش العمومي، وبإلحاح، المسار المتعثر لورش الجهوية المتقدمة. وتتضاعف راهنية هذا النقاش في ظل صدور قرار مجلس الأمن 2797 حول الصحراء المغربية، وما يفرضه من ضرورة بلورة تفاصيل مبادرة الحكم الذاتي، في علاقة عضوية، تفرض نفسها، مع ورش الجهوية المتقدمة كخيار وطني شامل، وبما يقتضيه ذلك من انسجام دستوري بين التنظيم الجهوي على المستوى الوطني وذلك المرتقب في أقاليمنا الجنوبية.

لقد فتح خطاب جلالة الملك سنة 2010، الذي بشّر بهذا الورش كمشروع مهيكل لإعادة بناء الدولة، آفاقاً واسعة أمام رؤية تجعل من المنتخب شريكاً فعلياً في إنتاج القرار التنموي على المستويين الجهوي والمحلي. غير أن التنزيل الفعلي لهذا الورش، منذ انطلاقته المتأخرة أصلا سنة 2015، أفرز واقعاً مغايراً يبدو بعيداً عن تلك الطموحات المعلنة. ولعل الدورية الجديدة، التي تمنح الولاة والعمال دوراً محورياً ومهيمناً في هندسة البرامج التنموية، ليست سوى دليل إضافي على هذا الانزياح. إننا نقف اليوم أمام مفارقة مقلقة: فبينما كان الطموح هو ترسيخ التدبير الحر، فإن الممارسة تسير باطّراد نحو تضخيم دور الإدارة الترابية على حساب المنتخب، وهو ما يعيد إنتاج منطق المركزية الذي كان يُفترض أننا بصدد القطع معه.

والواقع، أنه لو تم التفعيل السليم للقوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية (الجهات، العمالات والأقاليم، والجماعات)، ضمن مقاربة تشاركية حقيقية، وبمواكبة فعلية من لاتمركز إداري ينقل الصلاحيات للمصالح الحكومية على كافة المستويات الترابية، وبإرادة سياسية مشتركة، لكنا في غنى تام عن ابتداع مثل هذه البرامج الموازية. فآليات التخطيط الأصلية التي نص عليها القانون، من برامج عمل الجماعات، وبرامج تنمية العمالات والأقاليم، وصولاً إلى برامج التنمية الجهوية، كانت كافية لتحقيق الأهداف المنشودة دون الحاجة إلى هذه التدخلات الاستعجالية الموازية. إن هذه البرامج المندمجة الجديدة، التي تفتقر إلى السند التنظيمي الأصلي للتنمية المجالية، لا تعدو كونها محاولة لاستدراك الاختلالات التي شابت إعداد وتنزيل البرامج الأصلية، وذلك في سياق مقاربة تُكرس تهميش دور المنتخبين وتفريغ المجالس المنتخبة من صلاحياتها الجوهرية التي خولها لها القانون.

هذا التشخيص النقدي ليس وليد انطباع عابر، بل هو واقع تؤكده الوثائق الرسمية. فالتقرير الموضوعاتي الصادر عن المجلس الأعلى للحسابات (أكتوبر 2023) حول “تفعيل الجهوية المتقدمة” قدم تشخيصاً دقيقاً وقف عند التفاصيل، وخلص إلى نتائج مقلقة تؤكد وجود اختلالات بنيوية وفجوة صارخة بين ما تمنحه النصوص القانونية للجهات من اختصاصات، وبين ما يُمارس فعلياً على أرض الواقع. وكشف التقرير، بما لا يدع مجالاً للشك، عن بطء كبير في تفعيل الاختصاصات الذاتية والمشتركة الحيوية، وعن استمرار هيمنة المقاربات القطاعية المركزية، فضلاً عن الضعف المهول في الموارد البشرية والمالية المرصودة للجهات لتمكينها من لعب دورها كقاطرة للتنمية. باختصار، أكد التقرير أننا ما زلنا بعيدين كل البعد عن الأهداف الاستراتيجية المرسومة لهذا الورش.

ومما يزيد من تعقيد هذا الوضع، أن هذا التعثر في ورش الجهوية (اللامركزية) يعود أيضاً إلى تخلف ورش آخر كان من المفترض أن يسير معه بالتوازي ويدعمه، وهو ورش “اللاتمركز الإداري”. لقد كان المنتظر أن يتطور المساران بتناغم وتكامل، للوصول إلى الغاية المثلى التي رسمها طموح 2010. وفي هذه النقطة بالذات، فإن الأرقام التي ساقها المجلس الأعلى للحسابات ناطقة: نسبة إنجاز خارطة طريق اللاتمركز الإداري لم تتجاوز 36% حتى منتصف أكتوبر 2024، ونسبة نقل وتفويض الاختصاصات للمصالح اللاممركزة لم تتعد 38%. هذه النسب ليست مجرد بيانات تقنية باردة، بل هي البرهان المادي على أن الإدارة المركزية لم تكيف هياكلها بعد، ولم تضطلع بدورها في تمكين الجهوية المتقدمة، تاركةً المجالس المنتخبة في مواجهة مباشرة مع تحديات التنمية، دون توفير الآليات الإدارية اللاممركزة الضرورية.

من جهة أخرى، يكتسب هذا النقاش بعدا استراتيجيا وطنيا أعمق، متجاوزاً التفاصيل التدبيرية والسياسية. فمبادرة الحكم الذاتي في الصحراء، التي أصبح المغرب مطالباً اليوم بتفصيلها وبلورتها وفق المعايير الدولية، هي في جوهرها تأسيس لأرقى أشكال اللامركزية والجهوية. والسؤال المشروع الذي يطرح نفسه هو: ما السبيل لكي يكتسب مقترحنا الجاذبية المطلوبة وإقناعَ المنتظم الدولي، وتجاوزَ التردد في تنزيل منظومتنا الوطنية للجهوية التي لا تزال، بشهادة التقارير، تكافح لتفعيل أبسط اختصاصاتها؟

إن نجاح ورش الجهوية المتقدمة، وفقاً لروح خطاب 2010، هو الذي كان البيئة المناسبة والممهدة لبلورة مشروع حكم ذاتي لأقاليمنا الجنوبية في إطار انسجام تام بين وعاء المنظومة الوطنية الشاملة والمقترح الخاص بهذه الأقاليم.

ولكي يكون هذا الوعاء صلباً ومقنعاً، لا بد من مراجعة جذرية لأسلوب تنزيل هذا الورش الحيوي. وفي هذا السياق يجب تصحيح الانزياحات والاختلالات التي راكمها هذا التنزيل، والعمل على تطويره في أفق التعديلات الدستورية التي لا شك ستفرض نفسها في إطار الإعداد والتوافق على نموذج الحكم الذاتي بأقاليمنا الجنوبية، ضمن الدينامية التي خلقها القرار الأممي التاريخي 2797. وفي هذا السياق، يجب ،على الخصوص، أن تتبوأ المجالس المنتخبة مكانتها كفاعل محوري في التدبير الحر والتخطيط والبرمجة والتنفيذ، مع تفعيل صارم للمبدأ الدستوري القاضي بربط المسؤولية بالمحاسبة. ويجب أن يقتصر دور الإدارة الترابية على التنسيق والمواكبة، لا الوصاية والهيمنة، عبر التخلص من الإرث التاريخي والسياسي للمركزية الإدارية.

إن الرهان اليوم مزدوج، ويتطلب منظوراً جديداً وشمولياً للجهوية الموسعة: إنجاح وتطوير الجهوية وطنيا بتجاوز اختلالات التنزيل وتأهيل العقليات من جهة، وتفصيل وإنجاح مبادرة الحكم الذاتي من جهة أخرى. هذا الرهان لن يُكسب إلا بإرادة سياسية حقيقية لتمكين المنتخبين من دورهم الدستوري، وبقطيعة واضحة مع المنطق المركزي الذي لا يزال يقاوم هذا المسار الديمقراطي التنموي، ويشوش على تحقيق الانسجام المطلوب بين طموحاتنا الوطنية الداخلية ومصداقية التزاماتنا الخارجية، في ظل الزخم الأممي الإيجابي غير المسبوق الذي يشهده ملف وحدتنا الترابية.