الجزائر فاعل فوضوي
تلوح الجزائر بقدرتها على فرض حالة حرب في شمال افريقيا، مستعملة في ذلك ذراعها المسلح؛ جبهة “البوليساريو” لزعزعة حالة الأمن انطلاقا من الصحراء. من المرجح أنها عدلت عن وهم خوض حرب مباشرة وتحمل نتائجها، لكنها اختارت السير على حافة الهاوية، كأسلوب للضغط من أجل تحسين موقعها التفاوضي، والتعبير للقوى الدولية عن امتعاضها من المسار الجديد الذي دخله النزاع الإقليمي حول الصحراء، ومن تآكل نفوذها في ملفات أخرى خصوصا في ليبيا ومنطقة الساحل، مستغلة حالة الاضطراب والفوضى التي يمر بها النظام الدولي.
ما تسعى إليه الجزائر من خلال ذراعها المسلح “البوليساريو”، أخذا بعين الاعتبار معطى تنامي النزاعات المسلحة، هو الدفع نحو توسيع حالة الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة. فلماذا تضغط الجزائر في هذا الاتجاه الفوضوي؟
الأسباب تبدو متعددة، إذا نحن وضعنا الاعتداء على مدينتي السمارة وأوسرد في سياقه العالمي والإقليمي. أولا، يلاحظ تنامي النزاعات المسلحة عالميا؛ ففي 2022، سجلت دراسة أعدها “معهد بحوث السلام” في السويد، اعتمادا على بيانات جمعها “برنامج أوبسالا لبيانات النزاعات”، نحو 55 نزاعا عنيفا حول العالم، وهو أعلى رقم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
نزاعات تتميز بشدتها وطول أمدها، بحيث استمرت في المتوسط ما بين ثماني سنوات إلى 11 سنة. ثانيا، لوحظ أنه طيلة العقد الماضي، لم يجر التوصل إلى أي اتفاق سلام شامل بوساطة دولية. بل إن أقصى ما تحقق، إقليميا مثلا، هو تهدئة النزاعات المسلحة، لفتح الطريق أمام مفاوضات، لم تحقق أي شيء ملموس لحد الآن، كما هو الحال مثلا في ليبيا واليمن وسوريا.
وثالثا، يظهر أن النزاعات المسلحة لا يمكن إدارتها لفترات طويلة دون حل جذري، ففي حالة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وقع تجميد الصراع وطي المفاوضات عمليا منذ 2014، بسبب رفض إسرائيل التفاوض مع السلطة الفلسطينية، وتقويضها لمقومات حل الدولتين في الضفة والقدس من خلال الاستيطان والتهويد، لكن هذا الوضع تفجر بشكل مفاجئ يوم 7 أكتوبر 2023 من خلال عملية طوفان الأقصى. وفي 2020، وبعد 30 عاما من اختلال أرمينيا لإقليم “ناغورني قرباغ” الذي تعترف الأمم المتحدة بأنه إقليم أذربيجاني، انفجرت مواجهات مسلحة بين البلدين، استعادت خلالها آذربيجان الإقليم بقوة السلاح. وفي الحالتين تأكد أن المقاربة التي تعتمد إدارة النزاعات بدل حلها لا يمكن أن تصمد لفترة طويلة.
هناك حاجة إلى دينامية جديدة ترجح مقاربة حل النزاعات بدل إدارتها، وهي دينامية بدأت في التبلور لدى الأمريكيين أيضا، لأسباب عدة منها الطبيعة المتغيرة للنزاعات ذاتها، ومنها انخراط قوى إقليمية ودولية، مثل الصين وروسيا والإمارات والسعودية وتركيا وإيران، بشكل مباشر أو غير مباشر، في تلك النزاعات، كما هو مشاهد في ليبيا واليمن وسوريا وغيرها، ما يزيد من صعوبات التسوية. ومن الطبيعي، والحالة هاته، أن تصبح الأمم المتحدة، التي كانت ذات يوم الوسيط المفضل في تسوية النزاعات، فاعلا هامشيا. بل إن الصراع الجيوسياسي المتصاعد بين الغرب من جهة، والصين روسيا من جهة أخرى، يساهم في فقدان آليات الأمم المتحدة لنفوذها ومصداقيتها.
تدرك الجزائر أبعاد الدينامية الجديدة لحل النزاعات، والرغبة في تجاوز حالة الجمود واللايقين، بما في ذلك احتمال التوصل إلى حل للنزاع حول الصحراء، وتضع التحول في الموقف الأمريكي، المتمثل في الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء بكل تداعياته على مواقف دول أخرى، ضمن هذا السياق. لكن بدل أن تنخرط في الدينامية الجديدة باعتبارها فرصة تعيد الأمل في بناء مغاربي شكل حلما لأجيال عديدة، نراها تعاند الواقع والحلم معا، وتهدد بمزيد من الفوضى، لن تنجو منها وقد تكون ضحيتها الأولى بكل تأكيد.