الجدار الرملي 2.0

قد يفرح البعض حين يكتشف أن معطيات سرية تسربت من مؤسسة عمومية أو حين يجد قاعدة بيانات منشورة في منتدى مظلم، كما لو أن الأمر مجرد فرصة للتلصص أو مادة للسبق الصحفي.
لكن خلف هذا “الانتشاء” العابر يختبئ تهديد خطير يمس السيادة الوطنية في عمقها، ويضع مؤسسات الدولة والمجتمع برمته أمام جبهة حرب جديدة لا تُرى بالعين المجردة.
نحن اليوم في زمن لم تعد فيه القرصنة الرقمية مجرد نزق مراهقين، أو مغامرات قراصنة هواة، بل تحوّلت إلى سلاح استراتيجي تُخاض به معارك النفوذ والهيمنة بين الدول الكبرى.
ومن لا يدرك خطورة هذه الحروب الإلكترونية، ولا يميّز بين فضول مشروع وخطر داهم، يغامر بترك أبواب بيته وأمنه وكرامته مشرعة أمام عدو لا يحتاج إلى أكثر من نقرة زر ليمارس أبشع أشكال التخريب.
لهذا لم يكن الكشف يوم أمي الاثنين فاتح شتنبر 2025، عن تعيين الملك محمد السادس، للجنرال عبد الله بوطريك مديرا جديدا للمديرية العامة لأمن نظم المعلومات، مجرد إجراء إداري عادي، بل هو إشارة استراتيجية واضحة بأن المغرب دخل مرحلة حاسمة في معركته ضد واحدة من أخطر أشكال التهديدات التي تواجه الدول اليوم: الحرب السيبرانية.
إنها حرب لا تترك وراءها دبابات، ولا جثثا ولا أنقاضا، لكنها قد تكون أكثر فتكا، لأنها تضرب في عمق الثقة، وتستهدف ما أصبح في زمننا المعاصر أغلى من النفط والغاز والمعادن: المعطيات.
المديرية العامة لأمن نظم المعلومات، التي أحدثت سنة 2011 في سياق ارتجاجات “الربيع العربي” وفورة استعمال الوسائط الرقمية في التعبئة وتشكيل الرأي العام، كانت منذ البداية اعترافا رسميا بأن الأمن لم يعد يُختزل في الحدود الترابية أو في التسلح العسكري التقليدي.
فالدولة أدركت باكرا أن الحروب المقبلة ستُخاض عبر الشاشات ولوحات المفاتيح، وأن من لا يملك سيادة على فضائه الرقمي سيظل عاريا أمام خصومه.
غير أن السنوات الأخيرة كشفت هشاشة المنظومة وضعف مواكبتنا للتهديدات المتنامية من حولنا. اختراقات متتالية لمؤسسات استراتيجية، من بينها منصات للموثقين أو المحافظة العقارية (الطرفان يتبادلان الاتهام)، والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وقطاعات أخرى حساسة، وضعت علامات استفهام كبرى حول قدرة المغرب على حماية بنياته الحيوية.
لم يكن الأمر طيلة الشهور الماضية يتعلق بمجرد هجوم تقني، بل بعملية اغتيال رمزي: قواعد بيانات تم تسريبها بشكل انتقائي، معطيات شخصية للمواطنين صارت معروضة في المزادات السوداء، ورسائل واضحة بأن الجدار الرقمي فيه ثغرات.
هكذا جاءت إقالة الجنرال مصطفى ربيعي من قيادة المديرية، وتعيين بوطريك خلفا له، كإعلان عن نهاية مرحلة وبداية أخرى.
هذا القرار ليس معزولا، ولا هو أول خطوة تقوم بها الدولة في هذا المجال بعد الاختراقات الكبيرة الأخيرة. فمنذ أشهر، جرى اعتماد ترسانة قانونية وتنظيمية متكاملة لحماية الأمن السيبراني:
• مرسوم 22 أكتوبر 2024 الذي وضع إطارا قانونيا لاستخدام الخدمات السحابية من قبل الإدارات والبنيات التحتية ذات الأهمية الحيوية، وألزمها بالاعتماد فقط على مزودين مؤهلين.
• مرسوم 26 يونيو 2025 الذي أضاف مديرية حكامة أمن نظم المعلومات إلى الهيكلة المركزية لوزارة المالية، بما يعني أن السيادة الرقمية لم تعد شأنا تقنيا، بل أصبحت جزءا من صلب الحكامة الاقتصادية والمالية للدولة.
• قرار رئيس الحكومة فاتح غشت 2025 الذي حدد المرجع المعياري لتأهيل مقدمي الخدمات السحابية، وفق أفضل الممارسات الدولية في الأمن السيبراني، بما يشمل التشفير، إدارة الهوية، استمرارية النشاط، وتدبير الحوادث.
• …
إن قراءة متأنية لهذه الخطوات تكشف أن المغرب لا يكتفي برد الفعل أمام الهجمات، بل يبني منظومة متكاملة من التشريع، والقيادة العسكرية، والتنظيم الإداري، لتحصين فضائه السيبراني.
واللواء بوطريك، بخبرته الممتدة في “السلاح الرقمي”، وبتكوينه الأكاديمي في الأمن والدفاع، يجسد هذا الانتقال من التدبير الدفاعي التقليدي إلى هندسة أمنية متقدمة.
لكن الأهم أن المغرب يتحرك في لحظة دولية شديدة الحساسية. فالهجمات الإلكترونية لم تعد سلوكا معزولا تقوم به مجموعات قراصنة، بل أضحت سلاحا استراتيجيا في يد الدول الكبرى.
فرنسا وإسبانيا، مثلا، تعرضتا مؤخرا لهجمات رقمية غير مسبوقة تزامنت مع مواقفهما السياسية من الحرب في غزة والقضية الفلسطينية (الموقف الإسباني الداعم للفلسطينيين واعتزام فرنسا الاعتراف بالدولة الفلسطينية).
وفي هذا الجوار الأوروبي، باتت “حروب السيرفرات” جزءا من أدوات الضغط السياسي، سواء عبر تسريب وثائق محرجة أو تعطيل خدمات حيوية.
في هذا السياق، لا يمكن أن ننظر إلى اختراق معطيات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي كحادث عرضي، ولا إلى تعيين مدير جديد كإجراء روتيني. نحن أمام معركة وجودية: حماية السيادة الرقمية جزء من حماية الأمن القومي.
فإذا كان الاستعمار القديم قد بدأ باحتلال الموانئ والثغور، فإن الاستعمار الجديد يبدأ بالتحكم في قواعد البيانات والخدمات السحابية. ومن لا يملك حراسة رقمية لمصالحه الحيوية لن يكون قادرا على الدفاع عن قراره السيادي.
لكن الحذر هنا يقتضي التذكير بأن الجهد الرسمي وحده لا يكفي. حماية الفضاء السيبراني ليست فقط مسألة قوانين ومراسيم، ولا مجرد مديرية عسكرية قديمةووأخرى مدنية في وزارة المالية جديدة، بل هي أيضا ثقافة مجتمعية، ووعي جماعي.
حين يهمل موظف بسيط كلمة السر، أو حين يبيع تقني خدماته السوداء في السوق الموازية، تنهار أعتى المنظومات. الأمن السيبراني، مثل الصحة العامة، لا يمكن أن يُترك فقط للأطباء والجنرالات، بل هو شأن يهم المجتمع برمته.
إن تعيين اللواء عبد الله بوطريك على رأس المديرية العامة لأمن نظم المعلومات يعكس إرادة واضحة لتقوية الجبهة الداخلية في زمن “الحروب الخفية”. لكنه في الآن نفسه نداء لنا جميعا، أفرادا ومؤسسات وإعلاميين، لنعي أننا في زمن لم يعد فيه الاختراق مجرد خطأ تقني، بل صار جبهة قتال تمس كرامة المواطن وسيادة الدولة.
والرسالة واضحة: لسنا في فسحة رقمية، بل في معركة حقيقية. واليقظة ليست خيارا، بل قدر من يريد أن يحافظ على استقلاله في زمن صار فيه السلاح الأول هو المعلومة.
وكما أقام المغرب جدارا رمليا في صحرائه ليصدّ زحف الميليشيات الانفصالية، ويعيد رسم معادلة الردع في الميدان، ها هو اليوم يحاول أن يبني جدارا من نوع آخر، غير مرئي، لكنه لا يقل صلابة ولا أهمية: جدار رملي إلكتروني.