التعليم والطماطم
أسوأ ما يمكن أن يحصل لنا اليوم ونحن نشارف على إغلاق قوس فترة المحنة التي مرت علينا بانقطاع أبناء غالبية المغاربة عن الدراسة لثلاثة شهور كأننا في بلاد منكوبة، هو أن ينصرف كل منا إلى حال سبيله وننشغل بهمومنا اليومية كأن شيئا لم يحصل.
لا أقصد التهويل من وقع ما حصل خلال هذه الفترة أو تحميله أكثر مما يحتمل، بل أقصد أن وضع المدرسة العمومية والمنظومة التعليمية عموما، لم يكن يحتاج إلى هذه المحنة كي ندرك واقعه المأساوي. ما حصل ينبغي أن يكون فرصة بما أنه أعاد المدرسة إلى قلب النقاش والاهتمام الجماعيين، كي نفتح النقاش الذي لم نفتحه قط يوما حول الفضاء الذي يصنع مستقبلنا.
لا يمكن أن نكون بهذا الاستخفاف الذي يبدو علينا تجاه المدرسة العمومية. يستحيل أن تكون الأسر المغربية بهذا اليأس الذي يجعل مدرسة أبنائها آخر همّها. وسيكون من موجبات الحزن والأسى أن تتحول مدرستنا إلى مجرد مؤسسة إنتاجية، تنتج الشغل وساعات العمل والأجور والتعويضات.
هذه البنايات وتلك الملايير من الميزانيات التي تقتطع من جيوب دافعي الضرائب، وهذه الآلاف من الكفاءات والأطر الإدارية والتربوية، مجرد وسيلة وليست الهدف. وسيلتنا المفترضة للعبور نحو المستقبل الذي نتمناه أفضل لأبنائنا ولبلادنا.
ماذا نريد بالمدرسة العمومية اليوم؟ ما هو مشروعنا؟ ونحو أي أفق نريد أن نبعث أبناءنا؟ هل نريد حقا اللحاق بالركب العالمي وأن نشارك في سباق الأمم نحو الفضاء ومكنونات الخلايا والذرات؟ أي إنسان نريد لمغرب الغد؟ هل نريد إنسانا يشبهنا في إيجابياتنا وسلبياتنا؟ أم نريده انسانا مختلفا عنا، يتفوق علينا، يتملك مقومات قوتنا وصمودنا ويتجاوز نقاط ضعفنا ونقائصنا؟ هل نريد فعلا مدرسة لتجديد وتقوية لحمتنا وتماسكنا الوطنيين؟ هل نسعى فعلا إلى مدرسة ترمم أعطاب الولادة واختالالات التنشئة الأولى وتفتح باب التباري مع الآخر بندية وثقة؟
لا أريد أن أقسو في الجواب، لكن لا مفر من الإقرار أن جل ما نأتي على اقترافه اليوم يفضي بنا إلى أجوبة سلبية. المدرسة المغربية مجرد مستودع نركن فيه أبناءنا لنركض خلف “طرف الخبز”. بعضنا يستعمل خدمات “المستودع” المجاني وبعضنا الأخر يدفع، لكن الفرق بيننا يكاد ينعدم. هي مسألة جودة المستودع ما يفرقنا لا غير. أمر يومي بالإيداع يصدره الملايين من الآباء والأمهات دون علم النيابة العامة.
جل المغاربة اليوم لا يرون في أبنائهم أملا في التغيير والترقي الاجتماعي، خارج ثنائية الهجرة نحو الشرق أو الغرب والحظ الذي يحققه كلب سباق أو موهبة خارقة في المراوغة وتسديد الكرات. قليلون جدا هم من يعلّمون أبناءهم بمنطق “الاستثمار” في المستقبل، أي مستقبلهم الخاص ومستقبلنا الجماعي. وهذا طبيعي لأن أول ما يتطلبه الاستثمار هو الثقة في المستقبل.
حتى الذين يستحضرون فكرة الاستثمار هذه، أي اليقين في وجود عائد مضمون في حد أدنى معين، يفعلون ذلك بمنطق منتج الطماطم والسيارة الكهربائية وأجزاء الطائرات، أي بطموح واضح للتصدير، لأننا لا نؤمن ب”سوقنا” الداخلية. على الأقل منتج الطماطم يتصرف بناء على دراسة مسبقة للسوق وعقود مضمونة وغطاء من الدولة، قبل أن يستثمر في البيوت البلاستيكية.
بعد سؤال المدرسة لابد لنا من طرح سؤال ماذا نريد بإدارتنا العمومية؟ هل نريدها فعلا مرفقا نستثمر فيه بشكل جماعي لنجني بشكل متساو وفعال خدمات مفيدة ومولدة للقيمة المضافة، اقتصاديا واجتماعيا؟ هل تجاوزنا حقا فترة الإدارة العمومية المكرسة لخدمة الدولة (السلطة) عبر تولي وظيفة الضبط والمراقبة وكبح تطلعات المجتمع وشراء السلم الاجتماعي مع جزء من الطبقة المتوسطة؟ هل هناك حقا في الدولة من فهم الخطب الملكية الحديثة التي انتقدت الإدارة العمومية على أنها توجيه نحو تفكيكها وتحطيمها؟ الهدم ليس سلبيا بالضرورة لأنه قد يكون ضروريا في بعض الأحيان من أجل بناء الجديد، لكن لمصلحة من وبأية كلفة سنقوم بهذا الهدم؟
ثم تعالوا ننظر في وجوه بعضنا البعض، أين هو المجتمع من كل هذا؟ هل هناك فعلا جمعيات لأولياء التلاميذ؟ هل هناك فعلا آباء وأمهات يفتحون دفاتر أبنائهم بين الفينة والأخرى؟ هل سمعنا صوتا حقيقيا للمجتمع خلال الشهور الثلاثة الماضية؟ ألم يكن الضجيج مشكلا بالكامل من أصوات من يحكم ومن يطالب بحقوق اجتماعية خاصة؟ ما حجم النقاش الذي خصصناه لسؤال أية مدرسة نريد؟ من منا ناقش تكوين الأساتذة والإداريين؟ من منا اهتم بالاختيارات التربوية والتعليمية؟ من منا فتح كتابا أو تقريرا أو موقعا ليطل على مدارس الآخرين، ممن يسبقوننا كثيرا، ليرفع رأسه بالسؤال: لماذا تقدم الآخرون وتخلفنا؟