“التعليم في ليلٍ بهيم”

ليلة السبت، حين كانت المدن تنام على ضجيجها المعتاد، جاءنا من خلف ستار الليل ما يشبه البلاغ الغامض: رسالة مطوّلة من رئاسة الجامعة، تسللت إلينا عبر رئيس الشعبة، تُنبئنا بإصلاح جديد.. إصلاح آخر.. وكأننا في مختبر لا في جامعة، وكأن الفكر قابل للتجريب مثل مادة كيميائية تُراقب تحت المجهر..
كان الجميع في عطلة.. لا أحد في الميدان سوى ظلالنا المنهكة من جلسات السنة الجامعية المنقضية.. ومع ذلك، وُلد “الإصلاح” فجأة، قبل أن يطلع فجر يوم جديد، كأنّ الجامعة بيت عائلة مفككة تُغير أثاثها ليلاً لتقنع نفسها أن الخراب ليس في الأساس..
يا سادة، لم يمضِ على آخر إصلاح سوى ثمانية أشهر.. ثمانية شهور من التوجس، من ترميم الخراب بالخوف.. وها نحن نُطلّ على إصلاح آخر، يُسلم إلينا كما يُسلّم المريض وصفة طبّية من طبيب لم يره من قبل، ولم يسمع أنينه حتى..
لقد صارت الجامعة المغربية خرائط معلّقة في مكاتب موظفين لا تطأ أقدامهم القاعات، ومراسلات في منتصف الليل تُراد بها قرارات في وضح النهار.. عبثٌ بلغ مداه.. لم نعد نُعلّم، بل نُنفّذ..
رسالة واتساب بعد منتصف الليل؟ هل هذا ما تبقّى من هيبة مؤسسة كان يُفترض أن تُنجِب العقول لا أن تُلغى بها العقول؟ لقد تمّ تهميش اللجان العلمية، تجويف التنسيق البيداغوجي، وتفريغ الأقسام من دورها الفعلي، وكأن الأستاذ الجامعي لم يعُد سوى رقم تأجيري في إدارة تُخطط للنيابة عنه، لا معه..
أين النقاش؟ أين الرؤية؟ أين ذلك “الإصلاح” الذي يبدأ بسؤال البنية لا فقط برسم خطة التغيير؟ أين المدرجات التي تتسع للطلبة؟ أين الطباشير والكراريس؟ أين العقول التي لم تنفر بعد من فكرة الحضور؟ بل، أين كرامة الأستاذ الجامعي التي تُختزل الآن في أمر يأتيه على الهاتف قبل الفجر ليُنفّذ دون أن يُسأل حتى عن رأيه..
أيها الوزير، الإصلاح لا يُدار من مكاتب الرباط، بل يُبنى من داخل القاعات التي اختنقت من فرط الاكتظاظ.. الإصلاح لا يُعلن عنه في صمت الليل بل في ضوء الشراكة، لا يُكتب في الرسائل العاجلة، بل في دفاتر التراكم، في أوراق الأساتذة، في وجوه الطلبة..
الإصلاح الحقيقي ليس رد فعل مذعور، بل فعلٌ خلاّق.. رؤية، لا مزاج.. شراكة، لا هيمنة.. مستقبل، لا تصفية حسابات الماضي..
ألا يكفي ما ضاع منا؟ ألا يستحق التعليم أن نُوقظ من أجله الوطن قبل أن ينام الجميع على حلم اسمه: الجامعة؟.لكن من قال إن الحلم لا يمكن طرده برسالة واتساب في عزّ المنام؟.. من قال إن الأستاذ لا يمكنه أن يتحوّل إلى متلقي أوامر، دون حتى حق الاعتراض أو التأجيل؟..
لقد صار التعليم مثل آلة موسيقية منسية في ركن مسرح مهجور.. لا أحد يعزف عليها، ولا أحد يجرؤ على الاقتراب منها.. لكن الغبار يعرف أسماء أوتارها أكثر منا..
كأننا نُدرّس ما لم نعد نؤمن به.. ونصلح ما لم نعد نملكه..
نحن أساتذة.. نعم.. لكننا بتنا نُشبه الطلاب المطرودين من قاعات النقاش..
نُعِدُّ الدروس.. ونُعَلِّم.. ونصمت..
لأن الصمت هو المهارة الوحيدة التي لم يشملها الإصلاح بعد..
وهكذا، حين يُفرغ الأستاذ من كرامته، لا يعود إصلاح التعليم ضرورة.. بل يصبح دفنًا أنيقًا لجثةٍ ما زالت تبتسم في الصور الرسمية…