story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

التطبيع مع الإبادة

ص ص

قبل نهاية 2024 بساعات، نشر مركز الإحصاء الفلسطيني أرقاما صادمة بشأن غزة، حيث أكد انخفاض عدد سكان القطاع المنكوب بمقدار 6% بسبب استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية منذ أكثر من 14 شهراً، وأشار إلى سقوط 46 ألف شهيد في فلسطين منذ السابع من أكتوبر، 98% منهم في غزة، وأن 100 ألف فلسطيني غادروا القطاع منذ بداية العدوان.

انخفاض عدد سكان غزة بـ6% يعني نحو 160 ألف فلسطيني، ليصير عدد سكان القطاع 2.1 مليون، منهم أكثر من مليون طفل دون 18 سنة، يشكلون ما نسبته 47%. ويزيد مركز الإحصاء الفلسطيني في إظهار أوجه الإبادة أن أحياء كاملة اختفت، وأن عائلات أُبيدت ومُحيت أسماؤها من السجل المدني.

وإن كانت هذه الأرقام، على أهميتها، مفيدةً لتبيان حجم الخسارة في إجماليتها وكلّيتها، فإن المرء يحتاج إلى محاولة إدراك ما يعنيه أن 46 ألف إنسان قتلوا بفعل الحرب. نحتاج إلى أن نستشعر الألم في كل شهيد تقتله إسرائيل، علّنا نستوعب حجم الإجرام الذي تغرق فيه تلك البقعة الجغرافية المظلومة.

وهل سيكون مفيدا لاستثارة بقيّة إنسانية في هذا العالم الخرِب أن يعلم أن 7 رضّع على الأقل ماتوا تجمّدا من البرد خلال الأيام الأخيرة؟

وأن يموت رضيع تجمّدا من البرد فهذا منتهى القسوة والإيغال في الوحشية، ودليلٌ على أن الذي يحدث فوق تحمّل البشر، ولن توصل مدى بشاعته كل تلك الأرقام المجرّدة، التي نحتاج لفهمها على حقيقتها الإنسانية أكثر من حقيقتها الإحصائية.

وإن كان موت الرُضّع متجمّدين من البرد مثالا عن فظاعات بلا حصر تنوّعت فيها جرائم الحرب، فإن غزّة تراجعت إلى خلفية المشهد، بعد تصاعد المواجهات في لبنان وكل تلك التطورات، وأيضا في أعقاب انهيار نظام بشار الأسد الدموي. تراجعت غزة في اهتمامات الإعلام اللاهث وراء الحدث الجديد والمسكون بتقديم الفُرجة في قالب الإخبار، لكن لم تتراجع مأساة أكثر مليوني إنسان لا يزالون غارقين في الدم والدمار والألم.

يومَ وصف مجرم الحرب المطلوب للاعتقال بموجب مذكرة المحكمة الجنائية الدولية، وزير “الدفاع” يوآف غالانت، الفلسطينيين بـ”الوحوش البشرية”، كان يتقصّد نزع أي صفة إنسانية عنهم تمهيدا لاستباحة دمائهم. وحين وصف مجرم الحرب الآخر بنيامين نتنياهو أطفال غزة بـ”أبناء الظلام” كان يبعث بإشارة لجنوده لعدم التردد في إطلاق النار على كل ما يتحرّك ولو كان رضيعا في قِماطه.

وحين صرّح الرئيس إسحاق هرتسوغ بأنه لا يوجد في غزة مدنيون، كان يبرّر الآتي من مذابحَ ومخازيَ وهو يمحو آخر سطرٍ في ضمير “الوحوش البشرية الحقيقية” التي نفّذت الإبادة.

وإن كان هذا غرض قادة الاحتلال من تكثيف الخطاب حينها لنزع صفات الإنسانية الفلسطينيين وتبرير الإبادة مسبقاً، وقبِل العالم فعلياً هذه الشيطنة، حتى صار كل المشكل لدى واشنطن مثلا أن عدد القتلى المدنيين في غزة “أكثر من اللزوم”، فإن هناك تطبيعاً مع ألم غزة صار يتسّرب حتى للمتعاطفين مع الفلسطينيين.

وإن كان أحدُنا لا يريد أن يستيقظ وينام على أخبار القتل والإبادة، ويميل إلى أن ينقطع عن مشاهدة الغارقين في دمائهم، فإنه أيضا ليس جيّدا أن نطبّع مع القتل والدمار والوحشية، وتتحوّل القصة إلى مجرّد أرقام وعناوين صحفية مكرورة مسكوكة صار بعضها يشبه بعضاً.

سكان غزة ليسوا وحوشاً بشرية، وهم أشرف الناس لأنهم يواجهون المتحلّين دفاعا عن أرضهم. لكنهم، في المقابل، ليسوا بشرا بلا شعور لا يعيشون الفواجع كما يعيشها كل الناس: سكان غزة يشعرون بالبرد كما يشعر به كل الناس، ويخافون كما يخاف كل الناس، ويبكون لاستشهاد أحبابهم كما يبكي كل الناس.

أهل غزة القابضين على جمر الصبر يعطشون كما يعطش الناس، ويجوعون كما الناس، ولهم احتياجات كما باقي البشر.. ليسوا وحوشا ودون البشر، لكنهم أيضا ليسوا “سوبر إنسان”، إلا عزّة نفسٍ أعْجَزتْ كل إنسان.

وإن كنت أعتبر نفسي متابعاً لما يجري في غزة، أو بتعبير أدق: ما يصلنا من غزة، وقد كتبت وشاهدت الموثّق من الفظائع الإسرائيلية في تلك الجغرافية، التي بالكاد تتجاوز المساحة الإجمالية لمدينة كالدار البيضاء بقليل، لكن وأنا أُراجِع خبرا عن وفاة رضّع جراء تجمّدهم من البرد، شعرت أنني محتاج لأن أفهم ما يعنيه أن يموت إنسانا متجمّدا، فضلا عن أن يكون رضيعا.

في كثير من المرات نكاد ننزع نحن بدورنا عن الفلسطيني صفة الإنسان، ونكاد نغرق في توهّم البطولة خلال الألم، بما يجعلنا نعيش راحة نفسية خادعة، رغم شديد تعاطفنا. الفلسطيني ليس “وحشا بشريا”، لكنه ليس “فوق بشرياً” فيما يخصّ المعاناة وإدراك قسوة الظلم.

يجب ألا يكون في استطاعة العالم أن يتناسى كل ذلك الهدر للإنسان الجاري في غزة، والقتل البشع للكرامة، والتشنيع الرهيب للإنسانية، ولهذا يجب أن نقاوم التطبيع معه، فليس في وسعنا “أسْطرة” قتل الإنسان الفلسطيني بلا سبب، خاصة حين نقرأ مثلا في “هآرتس” العبرية شهادات جنود في جيش الاحتلال بشأن ما يجري في منطقة محور نتساريم، الذي يفصل شمال القطاع عن جنوبه وصار يُطلق عليه “خط الجثث”، إذ يتم إطلاق النار على كل من يقترب، ولو كان طفلاً، ثم يُترك لتنهش الكلاب جثمانه، أو ربما تأتي جرافة لاحقاً وتدفن القتلى في الرمال بلا كرامة أو إثبات هوية.

في القطاع صارت الكلاب تأكل الجثث، وما تبقى مرميٌ على قارعة الطريق لا يُسمح بدفنه. يقول قائد في فرقة في جيش الاحتلال إنه “في غزة، يعرفون بالفعل أن المكان الذي توجد فيه مجموعات من الكلاب هو المكان الذي يجب عليهم الهروب منه”. فيما يروي ضابط آخر أن “منطقة القتل هي مدى رؤية القناص”، ويضيف أن بيانات المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي عن عدد القتلى لكل وحدة، لواء وفرقة، تحوّلت إلى منافسة بين القوات، فـ”إذا قتلت الفرقة 99 ما عدده 150 (فلسطينياً)، فإن الفرقة التالية ستحاول الوصول إلى 200”. تفاخرٌ بشأن من يقتل أكثر.

قائد كبير في الاحتياط بدوره يقول: “موجودون لأكثر من عام في مكان لا توجد فيه قوانين، حيث لا قيمة لحياة الإنسان”.

حتى من يشارك في القتل تحقّق له الإشباع من البشاعة وللاإنسانية ووقف بنفسه أمام مرآة الضمير ليدرّك أن ما يجري فوق تصوّر أي عقل، وليصرّح ضابطٌ بشأن الردم العشوائي للجثث بعد القتل المُباح: “لا أعرف إن كان أحد يتذكر أنهم هناك. هذه هي النقطة التي لا يفهمها الناس (الجنود)، هذا الأمر لا يقتل العرب فقط، بل يقتلنا نحن أيضاً”.

فإن كان من يقتل يقول هذا، فالأكيد أن الواقع أبشع من أن يُدرك. وهو أشدّ وطأة على الضحية.

هذه القسوة ليست حكايا وأحداثاً عابرة. هي مجمل آلام وجراح ومفتوحة، وأوجاع مستمرة، وأعطاب نفسية لن تُعالج ولو توقّفت الحرب. ما تفعله إسرائيل بحكم القتل للضمير الإنساني والدفع بالإجرام إلى حدود الجنون. ولن تُشفى غزة من الألم ولو أعادت إعمار البنيان.

عمران البنيان يخفّف من الوجع، لكن خراب الإنسان أفدح. وخراب الإنسان بسبب ما يجري في غزة غير قابل للإصلاح والإعمار. 46 ألف إنسان أحصت مستشفيات غزة مقتلهم، وعشرات الآلاف مفقودون، بينهم كثيرون طمرتهم جرافات الاحتلال و”لن نعرف إن كان أحد يتذكر أنهم هناك”.

حقّ غزة على كل الضمير الإنساني ألا يطبّع مع المأساة، وأن يشعر بأن كل نفسٍ تقتلها إسرائيل خسارة للإنسانية. حق غزة أن لا نُدمن الفواجع ونأنس بالموت. حق غزة أن نرى الدمار دمارا، والجوع جوعاً، والعطش عطشاً، والقتل قتلا.. أن نشعر بأن موت رُضّع تجمّدا من البرد فاجعة وليس خبراً على الحاشية.

قصارى القول

إن محنة غزة اختبار لمدى إنسانية كل إنسان. وإن الحفاظ على سلامتنا الأخلاقية يستدعي أن نستشعر كل ألم يجري هناك، وفي كل مكان على هذه الأرض. ألم إنسان بريء واحد لن يكون قضية قابلة للتفاوض والتبرير والتمرير والتطبيع.. وغزة بناسها ورجالها ونسائها وأطفالها عنوانٌ للضحية الخالصة في مواجهة عصارة القُبح الخالص.. غزة اختبار للإنسانية التي تتابع بتواطئ قبيح اجتياح المستشفيات وطرد المرضى عراة.. واعتقال الأطباء والأطر الصحية.

حسام أبو صفية، مدير مستشفى كمال عدوان المُختطف في معتقلات إسرائيل الرهيبة، نموذج من مئات تعذّبهم إسرائيل، فقط لأنها تشعر أنهم “إنسانيون أكثر من اللزوم” في عالم غير إنساني.. ولأجل صنيع الدكتور أبو صفية وغيره لا نفقد الأمل في الإنسان.