التطبيع مع إيران

نصف حرب قد يكون مثل نصف ثورة. ما يلي الحروب (غير المُكتملة) لا يكون دوماً مضموناً. وقد يحصل هذا مع إيران، وليس في صالح إسرائيل التي “لم تقطع رأس الأفعى”، بتعبير مجرم الحرب نتنياهو.
بعد حرب الـ12 يوما، يُرجّح أن تنكفئ إيران على نفسها، لتنظر عميقا في كل الذي جرى منذ 7 أكتوبر 2023، وكان عنوانُه الأبرز ضررٌ فادحٌ لاستراتيجيتها لـ”الدفاع المتقدم” التي استثمرت فيها موارد هائلة، ثم خسرت في أشهر كثيرا مما بنته خلال عقود.
ومع ذلك، يجب أن يعترف المرءُ بـ”حقيقتين” على الأقل: أولهما أن النظام الإيراني ليس من النوع الانتحاري، ويحمل في “عقله” الاستراتيجي قَدْرا مُعتبرا من النفعية، مما يفيدُ لإيجاد مساحات مشتركة معه.
وثانيهما، أنّ الخسارة كان يمكن أن تكون فادحةً أكثر في غياب “مصدّات” لحكّام طهران في دولٍ عربية: حزب الله في لبنان، والمليشيات العراقية، والحوثيون في اليمن، وباقي القوى المسلحة في المنطقة الحليفة.
هذه الوضعية خَوَّلت طهران أن “تُنفِق” من رصيد الآخرين قبل أن تبدأ السحب من مواردها، إلا دعماً لا يمكن إنكاره لقضية تحرّر الفلسطينيين، تؤدّي لأجله أثمانا معلومةً.
استثمرت إيران في قوى (طائفية) داخل دولٍ عربية، ولم تتّجه بتصالحيةٍ لبناء علاقات طبيعية مع هذه الدولٍ وقد سكنتها “خطيئة” تصدير ثورة غير مستساغة في جغرافيا “سُنّية”.
كان هذا واحداً من الخلافات العميقة مع المحيط، وسببا لانعدام ثقةٍ مزمن، عزّزته طموحات نووية جرى لربما تضخيمها غربياً وإسرائيلياً بمقادير تنفع لتأبيد الشكوك مع الجيران، ولتسويغ الحصار والعقوبات.
والقول بانكفاء إيران بعد الحرب متوقّعٌ بالنظر إلى ضربات قاسية تلقتها، وضربات قويّة وجّهتها. النظام في إيران، بهويته المشحونة بشعارات لم تُغادر لحظة الثورة، وأعاقت إنتاج خطاب أكثر عقلانية وعلاقات طبيعية مع المحيط، أمام اختبار جدّي، بين يديْ نقاشات داخلية بشأن ما جرى، وما يمكن فعله لإعادة بناء استراتيجية دفاع جديدة، تنهض على فهم دقيق للخسارات، وأيضا على استنتاجات مفيدة من 12 يوما من الحرب المباشرة، وسنوات طويلة من الحروب بالوكالة.
إيران مكشوفةٌ أكثر ممّا كانت عليه يوماً منذ ميلاد “الجمهورية الإسلامية”. استباحت إسرائيل أجواءَها، ثم أميركا، بعد أن أُخضعت لعملية “تقليم أظافر” استهدفت الأذرع طيلة 18 شهراً. طهران لا تتحمّل الانكشاف طويلا، في ظل وقف إطلاق نار هشّ مع إسرائيل لا يُلغي حالة الحرب.
إعادة بناء القدرات العسكرية المتضررة سيكون مهمة أولى مستعجلة. أما ثاني المهمّات فيرتبط بالداخل في اتجاهين: تنقية البلاد من خطر داهم يرتبط بالعمالة للإسرائيليين، ثم تعزيز الوحدة الداخلية عبر الانفتاح على نقاشات مجتمعية لم تعد مكتومةً، وقضايا تشغل الإيرانيين وترتبط بالحريات والحقوق، ولا أفضلَ من فترة وجود رئيس إصلاحي.
إيران “بلدُ الثورات”. وفي ظل نظام ما بعد الثورة يمكن أن نصفه بـ”بلد الاحتجاجات”. كل بضع سنوات تواجه الدولة تحديّا، وبالكاد تحتويه، آخره احتجاجات مهسا أميني.
بعد هذه الحرب سينظر النظام في أسباب خيانة مواطنين لبلدهم، ثم يُفترض أن ينظر في كيفية استثمار الشعور الوطني الذي ولّدته الحرب لإنجاز مصالحات مع “الهويات الصاعدة” في بلدٍ لا يزال أسيرَ مقولات “لحظة الثورة الإسلامية”.
الحقوقية الإيرانية الحائزة على جائزة نوبل للسلام شيرين عبادي تتوقّع “ثورة سلمية” للإطاحة بنظام قالت إنه “نمر من ورق”. في كلام عبادي مبالغات، لكن هذا لا ينفي طرح الإيرانيين الأسئلةَ بشأن استراتيجيات خارجية وأمنية عسكرية مُكلفةٍ.
الحديث عن نحو 500 مليار دولار هي نفقاتُ البرنامج النووي المُهدّد، والبرنامج الصاروخي الذي ظهر أنه غير كافٍ وحده لـ”تحقيق الردع” في مواجهة “عداوات” في الإقليم، وأيضا تشمل دعم مجموعات مسلحة لإنشاء “دويلات” داخل دولٍ عربية كان ولاؤها لـ”الولي الفقيه”، وقرارها في طهران، فضلا عن تكاليف حصارٍ مشدّد، وعزلة مؤلمة.
ربما كان أحد أغراض الحرب الأمريكية الإسرائيلية الأخيرة إرجاع إيران إلى حدودها الجغرافية، بدفعها إلى الوراء. يحتاج النظام الإيراني “صيانةً”، في سياق إعادة ترتيب الأوراق وتقييم الاستراتيجيات التي تأكد انحسارها، ويمكن أن تنعكس انفتاحاً على دول الإقليم، تُلمس آثاره في نوع من تخفيف العلاقة بـ”الحلفاء” من المجموعات (الشيعية) المسلحة، التي قد تبحث، بدورها، عن إعادة إنتاج علاقة “أكثر وطنية”. وقد بدأ حزب الله التمرين.
انكفاءُ إيران المتوقّع قد يفيد، للأسف، إسرائيل، لأنها تكون نزعت أشواكا كثيرة من قدمها. وأيضا، قد يدفع نحو تعزيز أدوار قوى إقليمية أخرى، وتحديدا السعودية وتركيا.
الانكفاء الإيراني المحتمل قد يستجلب شعورا ثقيلاً لدى عدد من دول المنطقة بتمدّد النفوذ الإسرائيلي، قد يبلغ ذروته بموجة ثانية في اتفاقات أبرهام، لن تكون بالضرورة ناشئةً عن تداعيات ما بعد 7 أكتوبر، بقدر ما هي مُستأنفةٌ عن مسارٍ عطّلته لحظة 7 أكتوبر. وأتعمّد هذا التدقيق المبكّر والاستباقي لأهميته، لأنه سيخرج غداً من يهاجم المقاومة ويرمي عليها وِزر خطيئة التطبيع مع دولة الإبادة الجماعية.
ستتغيّر، بين يدي موجةِ تطبيع متوقعة يجري التمهيد لها، الاشتراطاتُ بتغيّر السياقات وتركيزٌ إسرائيليٌ على “شرق أوسط جديد” مبنيّ على إنجازٍات عسكرية، على أن تتم عملية تدوير كبرى للاستراتيجيات القديمة، بإدخال السعودية “بيت التطبيع”، من بوابة هدنةٍ في غزة، بعدما سقط الشرط السعودي “الطموح” بإقامة دولة فلسطينية، إلى الحديث في مرحلة أخرى عن إمكانية قبول “مسار يؤدي إلى إقامة الدولة الفلسطينية”، قبل أن يجري الكلام هذه الأيام عن مجرّد “قبول إسرائيلي مبدئي بفكرة إقامة دولة فلسطينية في المستقبل”. و”موت يا حمار” مع حكومة اليمينيين المتطرفين في إسرائيل.
ورغم أن هذه المقالة تجتهد وُسْعها في البحث عن قراءة أكثرَ منطقيةً وواقعيةً، وغير مأخوذة بحماسات الاصطفاف ضد دولة الاحتلال، فإنها لا تُبشّر بانتصار إسرائيل. القول هنا عن دخول المنطقة دورةً من دورات التاريخ شديدةَ الحساسية، لن تنتهي إسرائيليةً. أقصى الجاري تحصيلُ نقاط معركةٍ في حرب مستمرة، احتاجت معه إسرائيل إلى قدرٍ كبيرٍ من الإجرام حدّ الإبادة، وقدر هائل من الدعم الأمريكي المؤثّر، وتواطؤ غربي، و”سلبية عربية” فضّلت انتظار أن “تُنجز إسرائيل المهمة” لترى، لكنها اليوم تنظرُ في انكشاف مستمر لإسرائيل نفسها بعد 12 يوما من الحرب مع إيران كشفت قصوراًً، يعني أساساً مصر الحدودية، وتركيا بكل طموحاتها الإقليمية، والسعودية التي تقْتصد في الإفصاح عن نواياها لمستقبل الإقليم.
تُقاتل إسرائيل بموارِدها، وبموارد عالم غربي مُستَقوٍ قد يتخفّف غداً من أعباء دعم مُكْلفٍ لـ”دولة” لا يمكن أن تستمر دون حروبٍ في “بيئة طاردة”.
وها هي غزة، الجغرافية الضيقة، والمحاصرة منذ 20 عاما، والمُجَوَّعة، ورغم الإبادة، لا تزال تؤذي دولة الاحتلال، وتُظهر بشاعةَ المُستعمِرين. ستبقى إسرائيل مُطوّقة بضحاياها، الذين يتألّمون وقد كثُرت جنائزهم، وينتظرون لحظة تغيّر الموازين لاسترداد الحقوق.
قصارى القول
سقوطٌٌ مريعٌ آخر أن يدخل العرب، طواعيةً، الزمن الإسرائيلي. المصلحة في إعادة بناء علاقات مع إيران أكثر توازناً. والظروف تساعد للتأسيس لعلاقة جديدة مع طهران في إقليم مضطرب ومرهق. والانكفاء الإيراني المتوقّع، والتراجع إلى “حدودها الجغرافية”، يمكن أن يُؤسّس لعلاقة احترام طالما كانت مطلباً عربيا. في العلاقات الدولية لا خصومات دائمة، ولا أعتقد أنه صوابٌ وضعُ كل البيض في السلّة الإسرائيلية الأمريكية.
الخطر الحقيقي إسرائيل، و”التناقض المركزي” دولة الاحتلال بكل تلك الطموحات التوسّعية العدوانية. ولا يجب الاستسلام لقراءةٍ أحادية بشأن ما تلا 7 اكتوبر، عبر التبشير بـ”نهاية التاريخ” في زمن الإبادة الجماعية. علاقةٌ متوازنة مع إيران مصلحة لدولِ الإقليم، وهذا يعني المغرب أيضاً، وقد يكون حان وقتُ خوضِ محادثة هادئة، لإزالة كثير من اللبسِ، بعضُه حقيقيٌ، وبعضه مترتّبٌ عن “سوء فهم” أو “سوء ظن”، تنتهي بالتطبيع مع إيران.