story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

التطبيع بالكسكس

ص ص

رغم قتامة الصور الآتية من فلسطين الواقعة تحت بطش الإسرائيليين هذه الأيام، هناك بعض الأخبار السارة التي تنفّس كربتنا بين الحين والآخر، كتلك التي يتولى فيها مقاوم حافي القدمين أداء خدمة توصيل العبوات إلى أفواه المدرعات.
ومن الأنباء السارة ما يخرج من بين ظهرانينا بين الحين والآخر، كمثل الحملة الشعبية العفوية التي استهدفت منتوجا تجاريا تبين أنه يتحول إلى غذاء للإسرائيليين، وحققت أهداف أكبر من مجرد إخضاع مؤسسة إنتاجية للإرادة الوطنية وحملها على الاعتراف والتعهد بالكف عن التصدير نحو اسرائيل، بل بعثت رسالة إلى كل من ينفخون في وهم تحوّل المغاربة إلى معسكر الظالمين وتخليهم عن المشترك الإنساني والحضاري مع المظلومين.
ليس بوارد لدي الركوب على أية موجة ولا رغبة عندي في امتطاء صهوة الشعبوية ولا تحفزني أية شهوة للمشاركة في افتراس شركة وطنية، قد تكون أخطأت، وهي بالفعل أخطأت بمنطوق بلاغها بالمعيارين الأخلاقي والإنساني، حين اختارت أن تطعم من يفترسون ويجوعون أطفال ومدنيي غزة، لكن العبرة هنا بهذه التجربة التي كشفت حجم التناقض بين الضمير الشعبي والسلوك الرسمي.
ذكرتني حملة المقاطعة الشعبية هذه التي استهدفت شركة لمجرد ثبوت تصديرها منتوجا يرتبط بطبق شبه مقدس عند المغاربة، هو الكسكس، بما حدث قبل ثماني سنوات، حين كنا كوفد إعلامي نحضر لتغطية مكشاركة المغرب في فعاليات معرض عالمي للغذاء والمأكولات في نيويورك، ومن بين ما أذكره من تلك التجربة أمران:
الأول أننا كنا نضطر للتجول بين أروقة المعرض ومشاهدة فنون الطبخ وأشكال بديعة من الأطباق، وكلما أقبلت بوجهك على رواق دولة من الدول سارع المشرفون عليه إلى دعوتك للتذوق من أكلهم، بينما كنا في شهر رمضان…
أما الأمر الثاني الذي أتذكره عن تلك التجربة، فهو أن أحد الزملاء الصحافيين التقط معلومة من محيط الرواق الإسرائيلي في ذلك المعرض، حول تسويق “كسكس” في الأسواق العالمية وضمنها السوق الأمريكية، لينجز تحقيقا رائعا عن كيفية “سرقة” إسرائيل لمنتوج مغربي ذو قيمة مزدوجة، تجارية ورمزية، وبيعه للعالم على أنه منتوج إسرائيلي. وأهم في هذه القصة أن ذلك التحقيق كان سببا في فوز هذا الزميل بجائزة وطنية في الصحافة…
فجأة حاول البعض أن يوهمنا أن تحولا ما طرأ في فكرنا وضميرنا، وأراد أن يقنعنا أننا أحباب وإخوة لمن سرقوا ونهبوا وقتلوا، وما زالوا يسرقون وينهبون ويقتلون في فلسطين، وإن علينا أن نفكر في “مصلحتنا” وننغمس في حلف مقيت لا نعرف مبرراته ولا دواعيه.
لا أسعى هنا إلى دغدغة أي نوع من المشاعر ولا التزحلق فوق أي صنف من الأمواج، وقلتها وأقولها من جديد: لست ضد إقامة علاقات رسمية مع دولة نشترك معها عضوية الأمم المتحدة، بفعل اضطرار ما، أو لجلب مصلحة محددة وضرورية، أو دفع ضرر محدد وكبير، لكن هذا لا يعني السقوط في “العشق الممنوع”.
لدينا علاقات رسمية مع جل دول المعمور، ولا يمنعنا ذلك من شد الحبل مع هذا والتصعيد مع الآخر حين يحدث ما يستوجب ذلك. وما يستهجنه الحس الإنساني السليم هو هذا الإصرار على غرام إسرائيل في الوقت الذي تسيئ فيه إلى مشاعر المغاربة وتخرجهم غاضبين بشكل شبه يومي إلى الشارع.
لهذا تأتي مثل هذه الحملات الشعبية التي استهدفت منتجا للعجائن بعد “ضبطه” يصدّر الكسكس إلى اسرئيل، لتحيي فينا الأمل وتكذب ما يريدنا البعض أن نقتنع به من مسخ يزعمون أنه أصاب قيمنا وموت خيّم على ضميرنا.
لدعاة الانغماس في حضن إسرائيل ومن هم فوق إسرائيل أو تحت إسرائيل، هذا درس ثمين فوق طبق من كسكس، يمكن تناوله ساخنا تماما كما يمكن تناول درس طبق البرغر الذي لقنه المغاربة في بدايات العدوان الحالي على غزة، حين كانت ردة فعلهم عكس ما سعت إليه علامة تجارية عالمية متخصصة في الوجبات السريعة، من وراء مقطع فيديو ترويجي رددت فيه سردية “نجن مغاربة مثلكم ولا نحول أرباحنا إلى إسرائيل”. فدراسة مسحية اعتمدت أدوات متطورة للذكاء الاصطناعي، كشفت للقائمين على الحملة التواصلية لهذه الشركة أن المقطع أجج الغضب وأثار ردود فعل معاكسة لما كانت تخطط له.
وإذا كانت الجوائز والتحفيزات قد سُحبت ممن يتمسكون بهذا الموقف الرافض لاحتضان المحتلين والقتلة، وباتت تُمنح في شكل تمويلات وصفقات وسفريات ومراكز “تفكير” وندوات… لمن يبيعون أنفسهم ويعمدون إلى التلبيس والتضليل ومحاولة تزييف الوعي، ها هي دروس الكسكس والبرغر تخبرهم أن ضمير المغاربة ما زال حيا، ولا مجال لتخييرهم بين هويتهم المركبة وتاريخهم الحافل بالتعدد والتنوع وغنى موروثهم اليهودي-العبري، والوفاء لإنسانيتهم وانتمائهم الحضاري والثقافي بدعم ومساندة الفلسطينيين.
هذا ضمير المجتمع يثبت أنه حي وأنه وفي للقيم والثوابت الوطنية الراسخة، بينما السؤال الكبير مطروح على ضمير الدولة، وعن السر الذي جعلها تنتقل من تتويج ومكافأة تحقيق صحافي يكشف “سرقة” شركات إسرائيلية لمنتوج الكسكس وبيعه في الخارج، إلى تحفيز إنتاج و”فتل” الكسكس وتصديره إلى قلب إسرائيل في الوقت الذي يموت فيه أطفال غزة جوعا وعطشا.
هذا ليس مجرد تناقض معنوي ولا رمزي، بل هو مؤشر عن شرخ كبير وخطير في جدار المشروعية الذي يفترض أن تتمترس خلفه الدولة وتتقي به الأخطار والتهديدات. هذا التطبيع “الانغماسي” الذي يصرّ عليه البعض “يأكل” من كل المكونات التي بني بها هذا الجدار، وعلى رأس تلك المكونات مشروعية التمثيل.
من يصرّون على دفع الدولة إلى الخروج إلى العالم تاركة خلفها هذا الموقف الشعبي الذي يعبر عن نفسه يوميا، هم كمن يدفع جنديا إلى البروز للخصوم ومبارزتهم عاريا من كل ذرع أو تغطية تحمي ظهره.