story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

“التحليل السياسي”.. هواية جديدة في زمن “السوشل ميديا”!

ص ص

لقد أصبح التحليل السياسي اليوم شبيها بهواية يمارسها أغلب الناس، يمارسونها في المقاهي كما يمارسونها في بيوتهم، ويمارسونها في “السوشل ميديا” كما يمارسونها في الإعلام الورقي أو السمعي البصري. الكل يتحدث في العلاقات الدولية والجيوبوليتيك والمستقبليات، حتى كاد محترفو التحليل السياسي كمهنة أن يختفوا في ركام من القول والقول المضاد. أما هؤلاء المحترفون أنفسهم فقد أصبحوا في كلامهم أشبه بعامة الناس، يتكلمون بدورهم لغة المقاهي والبيوت و”السوشل ميديا”. ظاهرة غير مسبوقة “فجّرتها” الحرب الأخيرة في الشرق الأوسط، فأصبحنا أمام بركان من التحليل في الحدث الواحد، دون أن ينصت أحد لأحد، وكأننا في سجال كلامي لا في مستجدات سياسية تطلب النظر من مختلف زوايا التحليل.

لمزيد من الوضوح، فلنضرب مثالا بأقرب حدث إلينا زمنا ومكانا، وهو قصف الكيان الصهيوني لإيران واغتيال عدد من القادة العسكريين والعلميين في صفها الأول. فمنذ أن أطلقت “القوات الإسرائيلية” أول غارة باتجاه طهران، انطلق التحليل هنا وهناك في لبوس من الرجاء أو الخوف أو التشفي أو الاعتبار أو الشك أو التساؤل أو الاستنتاج أو تصفية الحسابات الإيديولوجية مع هذه الجهة أو تلك. إنها حالة من “الهستيريا الجماعية” التي يفرزها واقع واحد: تعدد الخطاب في واقع اجتماعي سِمَته الهجونة والتبعية والتفاوت. إن الإيديولوجيات الرجعية والسلبية لا تنمو في صفاء، بل في جو من “البؤس الاجتماعي”. وإن فوضى الفهم والتحليل لا تنتعش في عقول مطمئنة، وإنما في جو من تصريف “البؤس الاجتماعي” خطابا سياسيا وموقفا في السياسة.

قال البعض إن “العورة” العسكرية والأمنية لإيران قد انكشفت، وقال آخرون إن تردد إيران في الرد على “إسرائيل” هو السبب، وقال صنف من المحللين إن غاية السنوار بإقحام إيران قد تحققت، وحذر متحدثون من تغول صهيوني في المنطقة، وفرح بعض “السلفيين” بالضربة التي تلقتها الشيعة الإثنا عشرية في إيران، وتوقع آخرون اندلاع حرب كبيرة وطويلة في الشرق الأوسط، واكتفت جماعة بالتنديد وتذكير العرب والمسلمين بإمبريالية المشروع الصهيوني، ودعت جهات إلى عدم التسرع في الحكم وانتظار القرار الإيراني، وخلطت فئات بين معركة إيران ضد الكيان الصهيوني وسياستها في المنطقة، وقال محللون من موقع “حياد” إن هزيمة إيران تعني اختلال التوازن الجيوسياسي في الشرق الأوسط، وتنبأ متابعون برد إيران عن طريق حلفائها ووكلائها في المنطقة، فيما بشرنا البعض بردّ عنوانه “إعلان إيران دولة نووية”… ويعجز الذهن عن استحضار كافة التحليلات والأقوال التي تداولها المتابعون على مواقع التواصل الاجتماعي.

بقي لنا أن نتساءل: ما سبب، أو أسباب، هي الفوضى التحليلية في واقع عربي لا يخفى على أحد موقعُه في التقدم الاجتماعي والنظري؟ لقد أشرنا أعلاه إلى التفسير الأكبر والأول لهذه الفوضى، وهو الذي وصفناه ب”واقع اجتماعي من الهجونة والتبعية والتفاوت”، أي تلك “القابلية الاجتماعية” التي تفرز إما تحيزات فردية مضطربة فكريا وسيكولوجيا، أو تحيزات إيديولوجية بالمعنى السلبي والرجعي للإيديولوجيا. هذا سبب مسبِّب لباقي الأسباب بما هو قابلية عربية عامة. فماذا عن الأسباب الأخرى؟ إنها جملة أسباب يمكن إجمالها في ما يلي:

1- انتقالية النظام العالمي: الفوضى ليست اجتماعية في هذا البلد أو ذاك فحسب، وإنما هي فوضى عالمية يتشكل في أحشائها عالم جديد. يعيش العالم اليوم في مخاض، وهو الواقع الدولي حيث يسعى كل طرف إلى تحصين مصالحه والبحث عن مواقع أكثر أمانا. في عالم كهذا تكثر “التحليلات” والمواقف المضلِّلة الخاصة بكل طرف حسب مصلحته، فيتم تصريفها عن طريق الإعلام والمواقف الرسمية وغير الرسمية. أضف إلى ذلك أن الرأي العام العالمي لم يعد مؤطرا بمرجعيات فكرية وفلسفية كبرى كما كان حاصلا في السابق، الأمر الذي يفسح المجال أمام المواقف المتعددة بتعدد التحيزات، أو لنقل: بتعدد المصالح بعد اضطراب -شبه تفكك- الكيانات الكبرى (الاتحاد الأوروبي) واحتدام التناقضات الكامنة في الوحدة الواحدة (الولايات المتحدة الأمريكية، الكيان الصهيوني).

2- التضليل الإعلامي: في الساحة العربية وحدها، تنشط العديد من القنوات العربية/ الإسلامية-الدولية مثل: الجزيرة (قطر)، والعربية (السعودية)، وسكاي نيوز عربية (الإمارات)، والميادين (إيران)، TRT عربية (تركيا) الخ. كما تنشط قنوات دولة ناطقة بالعربية من قبيل: فرانس 24 (فرنسا)، DW (ألمانيا)، والحرة (أمريكا)، RT عربية (روسيا)، CGTN عربية (الصين) الخ؛ ناهيك عن المواقع والمنصات الإلكترونية التابعة لهذه القنوات أو المستقلة عنها إعلاميا لا إيديولوجيا وسياسيا، وناهيك عن القنوات والمنصات الإعلامية الوطنية الرسمية الخاصة بكل دولة من دول الوطن العربي والإسلامي. يشتغل كل منبر إعلامي من هذه المنابر بـ”خط تحريري”، وعندما نتحدث عن “الخطوط التحريرية” فإننا نتحدث عن الإيديولوجيات التي توجه المادة الإعلامية والتي لا تخلو في أغلبها من تضليل، شكلا ومضمونا، في نقل الخبر أو تحليله أو طريقة عرضه. هذا الكم الهائل من المعلومات والمواقف والتحليلات يدخل المتابع العربي في نوع من الفوضى، إلا إذا ارتضى لنفسه خطا تحريريا بحكم انتماء سياسي أو إيديولوجي، وهذا اختيار لا يخلو من تضليل.

3- الفوضى الإيديولوجية: فمن جهة لم يعد النظر الفكري والإيديولوجي منقسما بين أقطاب كبرى على المستوى الدولي، ومن جهة أخرى فقد ضعفت -إن لم تكن سقطت- المرجعيات الإيديولوجية الكبرى بعد أحداث مفصلية أعادت فيها النظر؛ وذلك من قبيل أدلوجة اليسار بعد سقوط جدار برلين، أو أدلوجة “الإسلام السياسي” بعد خيبات ما سمي بـ”الربيع العربي”. لقد انعكس هذا المستجد الإيديولوجي على “الوحدات الإيديولوجية” نفسها، فأصبحت إيديولوجيات شتى. فـ”اليسار” أصبح “يسارات”، كل “يسار” ينطق باسم القوة الجيوسياسية-الاقتصادية التي تحتكره. ونفس الأمر يمكن قوله عن “الإسلاميين” الذي يتخذون مواقف متباينة حسب التموقعات السياسي لكل تنظيم إسلامي مهما كانت “نبرتهم الإيديولوجية والعقدية” واحدة. وهكذا، تجد في نفس التنظيم مواقف متباينة حد التناقض أحيانا، نتيجة تعدد مصادر التلقي من جهة أولى، ونتيجة التشظي الإيديولوجي الذي عرفته المرجعية الجامعة من جهة ثانية.

4- التراجع النظري والفكري: يحتاج التحليل السديد إلى عدة نظرية وفكرية وعلمية، يحتاج إلى التحرر من الإيديولوجيات كيفما كان مصدرها. وإذا كان الوطن العربي قد عرف بعض التجارب التي وضعته -وإن باضطراب وبنوع من الإدخال الإيديولوجي- على سكة “التحليل الملموس للواقع الملموس”، وإذا كانت هذه التجارب السياسية والإيديولوجية قد فتحت عينيه على حقول معرفية ضرورية في التحليل (الاقتصاد السياسي، الجغرافيا السياسية، علوم الاستراتيجية، المستقبليات، الخ)؛ فإن تجارب أخرى قد أدخلته دوامة من “التضليل الممارَس على الذات” بطريقة غير واعية، وتحت أقنعة من النظر الذي لا يصح استصحابه عند تحليل “عالم الشهادة”.

خلاصة القول: أننا أمام واقع مأزوم يرخي بظلاله على عمليات تلقي الخبر وترتيب المعطى وإعمال النظر المنهجي وإنتاج التحليل!