الرميد.. لا نريد منكم جزاء ولا شكورا
قرأت مثل كثيرين تدوينة السيد المصطفى الرميد الغاضبة، مع فارق بسيط، وهو أني قرأت “السكرين” فقط، لأن صفحة السيد وزير العدل والحريات السابق قامت بحظري، ولا أعرف متى تم ذلك؟ ولا لأي سبب؟ وإن كان هذا الحظر يبقى اختيار صاحبه، ولا حق لأحد في انتقاده من هذه الجهة، فإن “الصوابية السياسية” تقتضي أن يكون من يحب نعته “برجل الدولة” واسع الصدر، لتقبل الآراء الأخرى.
لن أدخل في السبب الذي جعل السيد الرميد يكتب بتلك اللغة الغاضبة، التي جعلته في بعض المقاطع يقوم بانزياحات، حتى عن الرسالة التي كان يود إيصالها. من مثل تصويره الدولة والجالس على العرش ومستشاريه الأفاضل (حسب تعبيره) ضمنيا، وكأن المزاجية تتحكم في قراراتهم، فيعدلون عن الاستجابة لرغبة كتلة واسعة من الرأي العام بإطلاق سراح معتقلين سياسيين، يتقدمهم معتقلو حراك الريف، لمجرد أن مفرجا عنه تحدث ربما بكلام لم يرقهم، أو لأنه لم يشكر صاحب العفو.
تتعدد القراءات في تفسير الخرجة المفاجئة (والمربكة كذلك)، فلربما تلقى تقريعا من جهة ما، فنفس عن غيظه، بالهجوم الضمني على من يعدهم السبب فيما ناله جراء “الدفاع عنهم”، وربما “ضمانهم”، أو يكون رد فعله نتيجة اعتقاده بأنه تم الإخلال بتفاهمات ضمنية غير مكتوبة، والحال أن غير المكتوب إذا اقترن بالضمني والتلميح والإشارة، فإن المسافة التأويلية بين الأطراف “المتفاهمة”، تكون عرضة للتباعد، وحتى للتناقض أحيانا، دون أن يعني ذلك نية في “الإخلال” بالوعود “الضمنية”.
حاول الرميد أن يضع تمييزا بين الحقيقة الأخروية والحقيقة الدنيوية، وهي مجازفة غير مأمونة العواقب، لا سياسيا ولا “دينيا”، لأن المقتنع بسلامة المساطر القضائية، واستقلالية القضاء ونزاهته، واحترام مقتضيات وشروط المحاكمة، لن يقحم الحقيقة الأخروية في معرض دفاعه عن أحكام يقول إنها عنوان العدالة القضائية، فالحقيقة الأخروية في المتن الديني إما متماهية مع الحقيقة الدنيوية في حال العدل، أو معاكسة لها في حال الظلم، والمطلوب شرعا هو تحقيق العدل على الأرض، لا إرجاؤه إلى يوم البعث، وما يفترض أن يظل محجوبا عنا، هو النوايا التي لا يعلمها إلا الله، أما الوقائع فهي مجال النظر والتحري والتثبت والمقارنة، والحقيقة القضائية يفترض أنها مجال صراع الأدلة والحجج وتقابلها، وليس مجال النوايا وما تخفي القلوب، لأنه بمنطق محاكمة النوايا، فيمكن أن أقول إن استحضار “الحقيقة الأخروية” يفيد ضمنيا عدم اقتناع الرميد بالحقيقة القضائية التي أدانت معتقلي الرأي، حتى لا أقول إدانة مضمرة لها، خصوصا وأنه بمرجعيته “الدينية” يعلم أن القاضي موقع عن الله في أحكامه.
ومع ذلك، فلا بأس من مسايرة الرميد في هذا التمييز، الذي يفيد حسبه أن الحكم القضائي حين يكتسب حجية الأمر المقضي به، يصبح عنوان الحقيقة القضائية “دنيويا”، والتي لا سبيل لتغييرها، وتبعا لذلك على التاريخ أن يدون الوقائع وفق ما نطق به القضاء، ويعتبره عنوان الحقيقة (أليست حقيقة دنيوية؟)، فمن أدانه القضاء فقد أدانه التاريخ، ولا مبدل لذلك في هذه الدنيا.
فما قول الرميد في عمل هيئة الإنصاف والمصالحة، وتعويض ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان؟
ألم تصدر أحكام نهائية أدانت أولئك الضحايا؟ فهل ما زالت تلك الأحكام عنوان الحقيقة الدنيوية عند الرميد؟.
لن أتعقب نوايا السيد الرميد، وإذا كانت له مساهمة في الإفراج عن مدونين وصحافيين، فهو مشكور على ذلك، وإذا كان مستمرا في سعيه للمساهمة في الإفراج عن آخرين، فلا يمكن إلا أن نتمنى له السداد والتوفيق، ولغيره ممن يسعى في هذا الاتجاه.
غير أن ما جعلنا نهتم بتدوينته، هو أن تصور الرميد للعفو الملكي، وما يجب أن يستتبعه، يعكس ماهية الملكية التي تفضلها بعض النخب، وهي ملكية يجب أن تغلب “السانكروني” على “الدياكروني”، والجمود على التجديد، والإقامة في “الثوابت البروتوكولية” عوض زحزحتها في اتجاه الحداثة السياسية المطلوبة.
فحتى على المستوى الديني، فإن “الشكر” إذا كان مطلوبا ممن نال “عطاء” أو “صدقة”، فإن الكمال البشري دينيا (المعبر عنه بمقام الإحسان)، يقتضي من “الواهب” السمو إلى درجة ” لا أريد منكم جزاء ولا شكورا”، لأن انتظار الشكر يخفي طلب “المن”، والقرآن يحذر من ” فلا تمنن تستكثر” ( للأمانة، هذه الفقرة فيها استلهام من تدوينة للكاتبة نعيمة العبدلاوي).
إن الآداب السلطانية كانت دائما تصور الحاكم بأنه من يهب، ومن يمنع، فكل ما يصدر عنه من قرارات تجاه رعيته، لا يخرج عن جدلية “العطف” أو “الغضب”، وفي هذه العلاقة العمودية، يصبح هم الرعية أن يرضى عنهم الحاكم، أو أن يتجنبوا غضبه. فالسلطان هو ظل الله في الأرض
بينما حركات الإصلاح، كانت تنطلق من مقولة ” الراعي المسؤول عن رعيته”، والذي بمقتضاه فإن الحاكم مقيد بالمصلحة، وحيثما كانت المصلحة فثمة شرع الله، وعليه فإن الحاكم يجب أن يتجرد من “الهوى”.
وتحركت عجلات التاريخ، حتى إن لفظة “الراعي” التي كانت تفيد “القيام على شؤون الرعية بأمانة وتجرد”، لم تعد لها الكفاية التفسيرية، لأنها رغم حمولتها النبيلة، بقيت مستضمرة لظلال من العلاقة العمودية بين الحاكم/ الراعي والأمة/ الرعية، لدرجة أن كاتبا “إسلاميا” من قيمة محمد خالد محمد سيؤلف كتابا أسماه: مواطنون لا رعايا.
إن هذا التذكير، يعود إلى تقديرنا أن الملكية المغربية، وإن عرفت في محطات مختلفة نزوعا نحو التحديث، وأحيانا متقدما على المجتمع ( الدعوة إلى تدريس الفتيات من طرف محمد الخامس نموذجا)، فإنها لا زالت مشدودة إلى الكثير من عناصر النزوعات السلطانية الموروثة التي تقيدها.
والعطب لا يوجد في بنية المؤسسة الملكية الموروثة فقط، بل كذلك في تصور الكثير من النخب لها، فمثلا بعد أن كانت مواقع التواصل الاجتماعي، والعائلات، وفئات كثيرة من المواطنات والمواطنين (ومنهم ملكيون أكثر من الملك)، تعبر عن رغبة جماعية بإطلاق سراح ما تبقى مع معتقلي الرأي والحراكات الاجتماعية يومي 19 و 20 غشت، مما يعني ضمنيا رغبة في الاستجابة الملكية لمطلب جماعي، جاءت تدوينة الرميد لتعيدنا إلى “الملك الذي يمن” عوض “الملك الذي يستجيب”.
ما ضر الرميد ( الحالة التي تمثل نخبة المخزن، وليس الشخص) لو قال: إن رسالتكم قد وصلت، ولا يهم كيف عبرتم عنها، لأن الدولة القوية تغلب المضمون على الشكل.