story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

البرلمان الشكلي

ص ص

زرت الأسبوع الماضي مقرّ البرلمان السريلانكي، الذي يتميّز بموقع فريد بين برلمانات العالم، لكونه بُني في شكل جزيرة تتوسّط بركة كبيرة، تسبح فيها التماسيح وتحيط بها حراسة أمنية مشددة تتطلب اجتياز عدة حواجز والخضوع للتفتيش قبل دخوله. أما الشكل الداخلي، فيكتسي هالة خاصة تضفي على المكان مهابة شبيهة بما ينتابك عند دخول المساجد والكنائس والمعابد.
صحيح أن التجربة السياسية والديمقراطية والبرلمانية السريلانكية لا تمثل نموذجا ناجحا بفعل الأزمات والاضطرابات الدموية التي عرفها هذا البلد… لكن موقع وشكل ومضمون المؤسسة البرلمانية، ينبئك على الأقل بأنها تمثل جوهر الحلم الذي تتطلّع إليه هذه الأمة، وإن كان السريلانكيون يصرّون أن لديهم ما يحملهم على الفخر، لكونهم شهدوا أول تجربة برلمانية على الإطلاق في القارة الآسيوية، بدأت في عهد الاستعمار البريطاني.
ومن البرلمان السريلانكي المتعثّر إلى البرلمان البريطاني الذي يمثل قدوة التجربة السريلانكية في جميع تفاصيلها، يعبّر موقع هذه المؤسسة عن مدى التقدير والاحترام الذي تحظى به الشعوب في فكر وعقل دولها ونخبها الحاكمة.
عندنا لا تحظى هذه المؤسسة لا بتاريخ مجيد، ولا حاضر مشرّف، ولا مستقبل يحمل على التفاؤل. فقد ظلّت الفكرة البرلمانية عالقة، بتعبير الأستاذ محمد الساسي، منذ استقلال المغرب وحتى 1963. وعندما خرجت إلى الوجود مُنحت مقراّ مهترئا داخل كلية علوم الرباط، حتى عندما تحوّل إلى مسرح لأول ملتمس للرقابة، ضاق صدر السلطة به وبعث الملك الراحل الحسن الثاني من ينتزع مفاتيحه من رئيسه، الراحل عبد الكريم الخطيب.
اليوم وبعد صدور دستور يضيف إلى شكل الدولة المغربية صفة البرلمانية، يغوص “مجلس الأمة” عميقا في وحل التهميش والإضعاف والطرد من دائرة صناعة السياسات.
وإذا كان الأكاديميون يتحدثون عن وظيفتين أساسيتين للبرلمان، هما التشريع والرقابة (بما أن وظيفة تقييم السياسات والدبلوماسية البرلمانية مجرد جعجعة بلا طحين)، وبعد تجاوز وظيفة التشريع التي تحوّلها فكرة “العقلنة” إلى وظيفة هامشية تمارس على هوى الحكومة ومزاجها؛ تتبقى لنا وظيفة الرقابة كأداة ممكنة لحفظ ماء وجه المؤسسة.
بعيدا عن أي تعبير انطباعي، تحدّثنا لغة الأرقام اليوم عن حالة الازدراء التي يعاني منها البرلمان المغربي، حين نعلم أن رئيس الحكومة يتخلّف عن جلساته بالشهور، ويفرض أجندته على المؤسسة عبر أغلبيته. بل إن المعطيات المفصلة التي كشفها تقرير تحليلي جديد لجمعية “سمسم مشاركة مواطنة” يخربنا أن رئيس الحكومة لم يجب على أي من الأسئلة الكتابية التي وجهها إليه “نواب الأمة”، ووزير الخارجية الذي يفترض فيه الحرص على تسويق صورة البلاد على أنها ديمقراطية ناشئة ودولة تحترم شعبها وتبني اختياراتها وفقا لإرادته، فلم يجد إلا سؤالا واحدا من أصل 59 سؤالا كتابيا وجّهه إليه النواب البرلمانيون، كي يجيب عليه، فيما كان جوابه عن 58 سؤالا آخر هو “النخال”.
وعلى الرغم من المقتضى الدستوري الذي يلزم الحكومة بالجواب عن الأسئلة الكتابية داخل أجل 20 يوما، فإن أكثر من 29 في المئة من أسئلة البرلمانيين منذ بداية الولاية التشريعية، التي ناهز مجموعها 16 ألفا و500 سؤال، لم تتلق أي جواب، بينما تجاوزت الحكومة الأجل الدستوري في الكثير من أجوبتها.
أكثر من ذلك، أخذ منحى تطوّر سلوك الحكومة تجاه الأسئلة البرلمانية، يميل نحو مزيد من التجاهل والاستخفاف. فقد انخفضت نسبة الأجوبة على الأسئلة الكتابية للبرلمانيين إلى حوالي 41 في المئة خلال السنة التشريعية الأخيرة، وهي الثالثة في عمر الولاية التشريعية الحالية، مقابل حوالي 65 في المئة كنسبة إجابة في السنة التشريعية الثانية، وأكثر من 57 في المئة كنسبة إجابة في السنة التشريعية الأولى.
استخفاف الحكومة بالبرلمانيين ووظيفتهم الرقابية لا يمكن تبريره، بما أن الحجة تقوم من داخل السلوك الحكومي نفسه، من خلال القطاعات التي تحقق نسبا مرتفعة من التجاوب، بينما يمعن آخرون، وهم الأغلبية داخل الحكومة، على خرق الدستور واحتقار البرلمان.
فقد احتلت وزارة التربية الوطنية أعلى نسبة تجاوب مع الأسئلة الكتابية للبرلمانيين، محققة الجواب على قرابة 79 في المئة من مجموع الأسئلة الموجهة إليها، تليها كل من وزارة العدل التي حققت نسبة تجاوب تناهز السبعين في المئة، بفارق طفيف عن الوزارة المنتدبة لدى وزيرة الاقتصاد والمالية المكلفة بالميزانية (لقجع).
في المقابل، حقّقت وزارة الخارجية أعلى نسبة تجاهل للأسئلة البرلمانية، بتقديمها أجوبة عن 1.69 في المئة من مجموع الأسئلة الموجهة إليها. أي أن السيد ناصر بوريطة أجاب عن سؤال كتابي واحد طيلة السنة التشريعية، من أصل 59 سؤال وجّه إليه من طرف ممثلي الأمة.
أما رئيس الحكومة ف”قاليه ما كاتعرفش”، وحقق نسبة تجاوب صفرية، ولم يقدّم أي جواب على أي من الأسئلة ال8 التي وجّهت إليه.
أما بالنسبة للأسئلة الشفوية، فمن أصل قرابة 11 ألف سؤال وجّه إليها خلال الولاية التشريعية الحالية، أجابت الحكومة عن 2146 سؤال فقط، أي بنسبة تجاوب تقل عن العشرين في المئة. بل إن منحى التطوّر السلبي المسجل في الأسئلة الكتابية تفاقم أكثر مع الأسئلة الشفوية، وبالكاد تجاوزت نسبة التجاوب خلال السنة التشريعية الأخيرة عتبة ال15 في المئة، مقابل 21 في المئة في السنة التشريعية الماضية.
حين زرت مقر البرلمان السريلانكي واستغربت لموقع بنايته الحديثة (افتتحت سنة 1983)، رحت أتساءل عن دلالات هذا الموقع، فكان من بين ما تلقيته من أجوبة أن البرلمان-الجزيرة يرمز للانعزال، بمعنى الحياد بين الأطراف المتصارعة سياسيا، وصعوبة الوصول إلى البناية تحيل على أن وظيفة تمثيل الأمة ليست سهلة، علاوة على الدلالة البيئية للماء وما يعنيه في الثقافة البوذية من نقاء وسلام داخلي…
فما هي يا ترى رمزية سلوك النخبة الحاكمة في المغرب تجاه البرلمان؟